مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " ولا قضاء عليه إلا أن يكون واجبا فيقضي "
قال
الماوردي : وهذا كما قال ، قد ذكرنا أن
المحصر إذا تحلل من إحرامه بالهدي والحلاق ، فلا قضاء عليه ، إلا أن تكون حجة الإسلام قد وجبت عليه قبل إحصاره فعليه أداؤها ، وإن وجبت عليه في العام الذي أحصر فيه لم يلزمه قضاؤها ، وقال
أبو حنيفة : على المتحلل بالإحصار القضاء ، سواء كان إحرامه فرضا أو تطوعا ، فإن كان محرما بحج لزمه أن يقضي حجة أو عمرة ، وإن كان قارنا قضى حجا وعمرتين ، واستدل على وجوب القضاء برواية
عكرمة قال سمعت
الحجاج بن عمرو الأنصاري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=922899من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة فسألت
أبا هريرة وابن عباس فقالا : صدق ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أحل من عمرته بالإحصار سنة ست
بالحديبية ، قضاها سنة سبع ، فسميت عمرة القضية ، وعمرة القضاء ، وعمرة القصاص : ولأن
عائشة - رضي الله عنها - لما حاضت
بمكة ، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=922900اقضي عمرتك وأهلي بالحج " ، ثم أمر أخاها
عبد الرحمن أن يعمرها من
التنعيم ، فألزمها قضاء العمرة التي رفضتها ، وتحللت منها ، وكانت في حكم المحصر : لأنها لم تقدر على إكمال العمرة : لأجل الحيض ، ولا أمكنها المقام على العمرة إلى أن تطهر خوفا من فوات الحج : ولأنه خرج من نسكه قبل تمامه فوجب أن يلزمه القضاء ، كالفائت ، ولأن
الحصر نوعان : عام ، وخاص .
فلما لزمه القضاء بالتحلل من الحصر الخاص ، وجب أن يلزمه بالتحلل من الحصر العام ، ودليلنا قوله تعالى :
فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي [ البقرة : 196 ] ، فذكر الإحصار ، وبين حكمه وهو الهدي ، فدل أنه لا موجب له غيره ، واستدل
الشافعي بأن النبي صلى الله عليه وسلم أحصر بالعمرة سنة ست ، وأحصر معه أصحابه وكانوا ألفا وأربعمائة ، ثم تحللوا معه ، فلما كان في السنة المقبلة ، وهي سنة سبع خرج للقضاء ، وخرج معه ناس من الصحابة ، أكثر ما قيل ، سبعمائة ، فموضع الدليل من هذا ، هو أن القضاء لو كان يلزمهم لذكره النبي صلى الله عليه وسلم لهم ليخرج معه جميعهم : لأن من أوجبه على الفور منع من التراخي ، ومن جعله على التراخي ، منع أن يجبر التأخير في ذلك العام : لأن
مكة كانت إذ ذاك دار شرك ، وكان القضاء في غير العام الذي قضى فيه النبي صلى الله عليه وسلم غير ممكن ، فلما لم يخرجوا وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ترك الخروج ، دل على أن القضاء غير واجب ، وروي عن
ابن عمر وابن عباس أنهما قالا : لا قضاء على المحصر ، وليس لهما مخالف ، فكان إجماعا : ولأنه تحلل من نسكه بسبب عام ، لم ينسب فيه إلى التفريط ، فوجب أن لا يلزمه القضاء ، كالمتحلل بعد
[ ص: 353 ] كمال الحج : ولأن دم الإحصار إنما وجب بدلا عما أحل بفعله من الأركان ، بدليل أنه لا يجوز أن يتحلل قبل نحره ، وإذا كان الدم بدلا منها ، وجب أن لا يلزمه القضاء كما لو أكملها .
فإن قيل : فيجب على هذا أن لا يلزم الفائت القضاء .
قلنا : دم الفوات وجب لأجل التأخير بدلا من الأفعال .
فإن قيل : إذا قام الدم مقام الأفعال ، يجب أن يجزئه ذلك عن حجة الإسلام .
قلنا : قد يكون الشيء بدلا عن الشيء في حكم ، ولا يكون بدلا عنه في جميع الأحكام ، كالتيمم بدل من الطهارة في سقوط الفرض ، وليس هو ببدل عنه في أن يؤدي به كل فرض .
فأما الجواب عن حديث
الحجاج ، يقتضي أن المتحلل بالمرض يلزمه القضاء ، ولنا فيه كلام سيأتي .
وأما قولهم : إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى عمرته ، وسماها عمرة القضية والقضاء .
قلنا : هذه التسمية ليست من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من أصحابه ، وإنما هو من أهل السير والمغازي ، فلم يكن فيه حجة على أنها سميت عمرة القضية والقضاء : لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاضى عليها
سهيل بن عمرو على أن يرجع في العام المقبل ، ولذلك سميت عمرة القصاص : لأنه اقتص منهم حين منعوه ، وفيها أنزل الله تعالى :
والحرمات قصاص [ البقرة : 194 ] ، وأما
عائشة - رضي الله عنها - فكانت قارنة : لقوله صلى الله عليه وسلم لها :
nindex.php?page=hadith&LINKID=922902طوافك بالبيت يكفيك لحجك وعمرتك .
وأما قياسه على الفوات ، فالفرق بينهما من وجهين :
أحدهما : أن الغالب من الفوات حدوثه من تفريط ، وليس كذلك الإحصار .
والثاني : أنه لما لزمه بعد الفوات أن يأتي بما قدر عليه من الأفعال ، لزمه القضاء ، ولما لم يلزمه بعد تحلل الإحصار أن يأتي بما قدر عليه ، لم يلزمه القضاء .
وأما
الإحصار الخاص ، ففيه قولان :
أحدهما : لا قضاء ، فعلى هذا قد استويا .
والثاني : عليه القضاء ، فعلى هذا ، الفرق بينهما من وجهين :
أحدهما : قد ذكرناه : وهو لحوق المشقة الغالبة في العام ، وعدمها في الخاص .
والثاني : أن في الإحصار العام يمتنع سلوك الطريق ، وذلك شرط في وجوب الحج ، فسقط القضاء ، وفي الخاص لا يمتنع سلوك الطريق ، فوجب القضاء .
[ ص: 354 ]