فصل : [ بيان وقت الخيار ]
فإذا
رأى المشتري السلعة المبيعة ، فهل يثبت له خيار المجلس أو خيار العيب ؟ على وجهين :
أحدهما : يثبت له خيار المجلس - وهو قول
أبي إسحاق - لأن عنده بالرؤية تم العقد .
فعلى هذا له الخيار في الفسخ على التراخي ، ما لم يفارق مجلسه ، سواء وجد السلعة ناقصة عما وصفت أم لا . وله أن يشترط في المجلس خيار الثلاث ، وتأجيل الثمن ، والزيادة فيه ، والنقصان منه .
والوجه الثاني : يثبت له بالرؤية خيار العيب - وهو قول
أبي علي بن أبي هريرة - لأن عنده أن بالبذل والقبول قد تم العقد . فعلى هذا إن وجدها على ما وصفت لم يكن له خيار ، وإن وجدها ناقصة ، كان له الخيار في الفسخ على الفور .
[ ص: 23 ] ولا يجوز أن يشترط بعد الرؤية خيار الثلاث ، ولا تأجيل الثمن ، ولا الزيادة فيه والنقصان منه .
فصل : فأما
خيار البائع ، فلا يخلو حاله من أحد أمرين :
إما أن يكون بيعه عن رؤية ، أو عن صفة :
فإن كان بيعه عن رؤية ، فهل له الخيار أم لا ؟ على وجهين :
أحدهما : له
الخيار - وهو قول
أبي إسحاق - لأن عنده أن بالرؤية يثبت خيار المجلس .
والوجه الثاني : لا خيار له - وهو قول
أبي علي بن أبي هريرة - لأنه يقول : إن العقد قد تم ، وبالرؤية يثبت خيار العيب .
وإن كان بيعه عن صفة ، وجوزناه على أحد الوجهين ، فلا يخلو حاله عند رؤية المبيع من أحد أمرين :
إما أن يجده زائدا على ما وصف له ، أو غير زائد .
فإن وجده زائدا عما وصف له ، فله الخيار في الفسخ ، لا يختلف ، كالمشتري إذا رآه ناقصا . وهل يكون خياره على الفور أو على التراخي ؟ على وجهين :
أحدهما : على التراخي ما لم يفارق مجلسه ، وهو قول
أبي إسحاق .
والثاني : على الفور ، وهو قول
أبي علي . فإن لم يجده زائدا ، فهل له الخيار أم لا ؟
على وجهين :
أحدهما : وهو قول
أبي إسحاق : له الخيار : لأن عنده أن العقد يتم بالرؤية ، ويثبت بعدها خيار المجلس .
والثاني : وهو قول
أبي علي بن أبي هريرة : لا خيار له : لأن عنده أن العقد قد تم بالبذل والقبول ، ويثبت بالرؤية خيار العيب . فهذا الكلام في بيع العين الغائبة على خيار الرؤية ، وما يتعلق عليه من أحكام .
فصل : فأما
بيع العين الغائبة بغير شرط خيار الرؤية ، فباطل لا يختلف فيه المذهب : لأنه بيع ناجز على عين غائبة ، وهو أصل الغرر .
وأما
بيع العين الحاضرة على شرط خيار الرؤية ، كثوب في سفط ، أو مطوي ، يبيعه موصوفا من غير رؤية ، بشرط خيار الرؤية . فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين :
أحدهما : أنه كبيع العين الغائبة على قولين : لأن الحاضر يساوي الغائب في العلم به إذا وصف ، ويزيد عليه في زوال الغرر بتعجيل القبض .
[ ص: 24 ]
والوجه الثاني : أنه لا يجوز قولا واحدا ، بخلاف العين الغائبة ، وهو قول أكثر أصحابنا ، وإليه أشار
أبو إسحاق المروزي ،
وابن أبي هريرة : لأن الحاضر مقدور على رؤيته ، فارتفعت الضرورة في جواز بيعه على خيار الرؤية ، والغائب لما لم يقدر على رؤيته دعت الضرورة إلى جواز بيعه على خيار الرؤية .
فأما
بيع السلجم ، والجزر ، والبصل ، والفجل ، في الأرض قبل قلعه على شرط خيار الرؤية .
فقد كان بعض أصحابنا يخرج جواز بيعه على قولين كالعين الغائبة .
وقال سائر أصحابنا : إن بيع ذلك باطل قولا واحدا .
والفرق بين هذا وبين العين الغائبة من وجهين :
أحدهما : أن وصف الغائب ممكن : لتقدم الرؤية له ، ووصف هذا في الأرض قبل قلعه غير ممكن .
والثاني : أن
المشتري إذا فسخ بيع الغائب ، أمكن رده إلى حاله ، وإذا فسخ بيع هذا المقلوع من الأرض ، لم يمكن رده إلى حاله .
فأما
بيع التمر المكنون في قواصره وجلاله :
فقد كان بعض أصحابنا يخرج بيعه على قولين كالغائب .
وقال سائر أصحابنا البصريين : يجوز بيعه في قواصره ، قولا واحدا إذا شاهد رأس كل قوصرة : لأن في كسر كل قوصرة لمشاهدة ما فيها مشقة وفسادا ، وقد أجمع عليه علماء الأعصار
بالبصرة .
وأما ما سوى التمر من الأمتعة التي في أوعيتها ، فلا يخلو حالها من أحد أمرين : إما أن يكون ذائبا ، أو غير ذائب .
فإن كان ذائبا كالزيت والعسل ، فإذا شاهد يسيرا مما في الوعاء أجزأه عن مشاهدة جميعه ، وجاز بيعه قولا واحدا ، كالصبرة من الطعام .
وإن كان غير ذائب فعلى ضربين :
أحدهما : أن يكون مما تتفاوت أجزاؤه ، ويباين بعضه بعضا ، كالثياب ، فلا يجوز بيعها إلا بمشاهدة جميعها ، إلا أن يبيعها من غير مشاهدة بشرط خيار الرؤية ، فيكون في حكم بيع العين الغائبة أو الحاضرة على خيار الرؤية .
والثاني : إن كان مما تتماثل أجزاؤه في الغالب ، أو تتقارب كالدقيق والقطن .
فقد اختلف أصحابنا فيه ، فقال بعضهم : لا يصح بيعه إلا برؤية جميعه كالثياب .
وقال آخرون : يجوز بيعه برؤية بعضه كالذائب .
[ ص: 25 ] فصل : قال
الشافعي رحمه الله في كتاب الصرف : ولا يجوز
بيع خيار الرؤية مؤجلا ولا بصفة .
فأما قوله : مؤجلا : يعني به
تأجيل تسليم المبيع ، كقوله بعتك دارا
بالبصرة ، أو
بغداد ، على أن أسلمها إليك بعد شهر ، فهذا باطل ، لأنه عقد على عين بشرط تأخير القبض ، وذلك غير جائز .
فإن قيل : فقبض الغائب لا بد أن يكون مؤخرا .
قيل : هو مؤخر بغير أجل محدود ، فجاز ، وليس كذلك مع الشرط ، لأنه قد يقدر على التسليم قبل الأجل ، فيؤخره لأجل الشرط ، وقد لا يقدر عليه عند الأجل ، فيلزم تسليم ما لا يقدر عليه بالشرط .
وأما قوله : ولا بصفة . فقد اختلف أصحابنا في تأويلها على وجهين :
أحدهما : وهو تأويل البصريين : أن يصف العين الغائبة بجميع صفاتها ، فلا يجوز : لأنها تصير على قولهم في معنى السلم في الأعيان .
والثاني : تأويل البغداديين : أن يجعل بيع العين الغائبة مضمونا في ذمته ، فلا يجوز كالسلم في الأعيان .
قال
الشافعي : ويجوز بيع العين الغائبة بثمن حال ومؤجل : لأن بيوع الأعيان يصح تأجيل الثمن فيها ، سواء كانت العين حاضرة أو غائبة ، لأنه بيع عين بدين ، وليس كالسلم المضمون في الذمم ، فلا يصح بيعه بمؤجل : لأنه يصير في معنى بيع الدين بالدين . فهذا جملة الكلام في بيع خيار الرؤية وما يتفرع عليه ويتصل به .
فصل : فأما
بيع العين الغائبة مع تقدم الرؤية ، وهو أن يكون البائع والمشتري قد شاهدا السلعة ثم غابا عنها ، وعقدا البيع عليها . فلا يخلو حال الرؤية من أحد أمرين : إما أن تكون قريبة المدة ، أو بعيدتها . فإن كانت المدة قريبة وليس لها حد مقدر فمذهب
الشافعي وجمهور أصحابه أن البيع جائز .
وقال
أبو القاسم الأنماطي من أصحابه : البيع باطل ، حتى تكون الرؤية مقارنة للعقد .
وقال
أبو سعيد الإصطخري : قلت لمن يناظر عن
الأنماطي : ما يقول صاحبك في
الدار إذا رآها المشتري ، وخرج إلى الباب ، واشتراها ؟ قال : لا يجوز . قلت : فإن
رأى خاتما وأخذه في كفه ثم اشتراه ؟ قال : لا يجوز قلت : فإن
رأى أرضا وخرج منها إلى جانبها ثم اشتراها ؟ قال : فتوقف : لأنه لو قال : يجوز لناقض مذهبه ، ولو قال : لا يجوز ، لما أمكن ابتياع الأرض . فهذا قول
الأنماطي ، وقل من تابعه على ذلك من الفقهاء .
[ ص: 26 ] واستدل على ذلك :
بأن الرؤية لما كانت شرطا في بيوع الأعيان ، وجب أن تقترن بالعقد ، كالصفة في بيع السلم .
وهذا المذهب شاذ الاعتقاد واضح الفساد : لأن الرؤية إنما أريدت ليصير المبيع معلوما ، ولا يكون مجهولا ، وهذا المعنى موجود في الرؤية المتقدمة على العقد ، كوجوده في الرؤية المقترنة بالعقد ، وليس كذلك الصفة . فهذا حكم الرؤية المتقدمة إذا كانت المدة قريبة .
فأما إذا كانت مدة الرؤية بعيدة ، فلا يخلو حال المشتري من أحد أمرين : إما أن يكون ذاكرا لأوصاف المبيع أو غير ذاكر : فإن كان غير ذاكر لأوصاف المبيع لبعد العهد وطول المدة ، فهذا في حكم من لم يره ، فإن ابتاعه على غير خيار الرؤية ، لم يجز .
وإن ابتاعه بخيار الرؤية ، كان على قولين ، وإن كان ذاكرا لأوصاف المبيع ، لم تخل حاله من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يكون مما لا يتغير في العادة ، كالحديد ، والنحاس ، فبيعه جائز ، فإن رأى فيه بعد العقد عيبا ، فله الخيار .
والقسم الثاني : أن يكون مما يتغير فلا يبقى مع طول المدة ، كالفواكه الرطبة ، والطبائخ .
فينظر في حاله حين العقد : فإن كان قد مضى عليه من المدة لا يبقى فيها كان بيعه باطلا ، وإن كان قد مضى عليه من المدة ما يعلم بقاؤه فيها ، فبيعه جائز .
وإن كان قد مضى من المدة ما يجوز أن يبقى فيها ، ويجوز أن يتلف ، فبيعه باطل : لأنه عقد على عين لا يعلم بقاؤها .
وفيه وجه آخر : أن بيعه جائز : لأن الأصل بقاء العين ما لم يعلم تلفها .
والقسم الثالث : أن يكون مما يجوز أن يتغير ويجوز أن لا يتغير كالحيوان ، ففيه قولان :
أحدهما : يجوز بيعه بالرؤية المتقدمة ، وقد نص عليه في البيوع : لأن الأصل سلامته وبقاؤه على حاله ، وبه قال أكثر أصحابنا .
والقول الثاني : أن بيعه لا يجوز ، وقد أشار إليه
الشافعي في كتاب الغصب واختاره
المزني : لأنه متردد بين سلامة وعطب .
والقول الأول أصح ، وعليه يكون التفريع ، فإذا تبايعا بالرؤية المتقدمة ، ثم رآه المشتري بعد البيع على ما كان رآه من قبل ، فلا خيار له ، وإن رآه متغيرا ، فله الخيار .
[ ص: 27 ] فلو اختلفا ، فقال المشتري : وجدته متغيرا ، وقال البائع : بل هو على ما كان عليه من قبل .
قال
الشافعي في كتاب الصرف : القول قول المشتري مع يمينه : لأنه يريد انتزاع الثمن من يده ، فلا ينتزع منه إلا بقوله . والله أعلم بالصواب .