مسألة : قال
الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ولا يجوز
بيع الدقيق بالحنطة مثلا بمثل من قبل أنه يكون متفاضلا في نحو ذلك " .
قال
الماوردي : وهذا صحيح ، والمشهور عن
الشافعي في سائر كتبه الذي حكاه عنه جميع أصحابه ، أن بيع الدقيق بالحنطة لا يجوز بحال ، وبه قال
أبو حنيفة ، وحكى
الحسين الكرابيسي عن
الشافعي جواز بيع الدقيق بالحنطة متفاضلا ، وجعلهما كالجنسين ، وبه قال
أبو ثور .
[ ص: 109 ] وقال
مالك ،
وأحمد ،
وإسحاق : يجوز بيع الدقيق بالحنطة متماثلا ، ثم اختلفوا في كيفية تماثله . فقال
مالك : يصح تماثله بالكيل .
وقال
أحمد وإسحاق : لا يصح تماثله إلا بالوزن .
فأما من ذهب إلى أنهما جنسان وجوز التفاضل بينهما ، وهو
أبو ثور ،
والكرابيسي في هذه الرواية ، فاستدل لذلك بشيئين :
أحدهما : أن الدقيق لا يصير حنطة أبدا ، ولا شيء أبلغ في تنافي التجانس من هذا .
والثاني : أنه لو حلف لا يأكل حنطة فأكل دقيقا ، أو لا يأكل دقيقا فأكل حنطة لم يحنث ، ولو كانا جنسا واحدا لحنث بأكل واحد منهما .
فأما من ذهب إلى أنهما جنس واحد ، وإن المماثلة بينهما حاصلة إما بالكيل أو بالوزن على حسب اختلافهم فيه ، فاستدل بأن الدقيق حنطة متفرقة الأجزاء ، وتفريق أجزائها يحدث فيها خفة في المكيال : وذلك لا يمنع من التساوي ، كما لو باع الحنطة خفيفة الوزن بكيلها حنطة ثقيلة الوزن لم يمنع من جواز البيع ، وإن علم اختلافهما في الوزن إذا تساويا في الكيل ، كذلك الدقيق بالحنطة .
والدلالة على أن الدقيق والحنطة جنس واحد هو أن الدقيق نفس الحنطة ، وإنما تفرقت أجزاؤها ، وليس تفرق أجزائها بمخرج لها من جنسها ، كصحاح الدراهم ومكسورها . فإن قيل : مكسور الدراهم يصير صحاحا بالسبك ، والدقيق لا يصير حنطة أبدا . قلنا : ليس اختلاف الشيء بتنقل أحواله التي لا يعود إليها يوجب اختلاف جنسه : فإن التيس لا يعود جديا ، والتمر لا يعود رطبا ، والرطب لا يعود بسرا ، ثم لا يدل انتقاله إلى الحالة الثانية وتعذر عوده إلى الحال الأول على اختلاف الأجناس ، بل التمر من جنس الرطب وإن لم يصر رطبا ، كذلك الدقيق من جنس الحنطة وإن لم يصر حنطة .
فأما الأثمان فمجهولة على عرف الأسامي ، والربا محمول على اعتبار المعاني ، فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر . ألا تراه لو حلف لا يأكل رطبا فأكل تمرا لم يحنث ، ولا يدل ذلك على أن التمر والرطب جنسان .
فإذا ثبت أن الدقيق والحنطة جنس واحد حرم التفاضل فيه ، ولم يصح اعتبار التماثل : أما بالوزن : فلأن أصله الكيل وما كان أصله الكيل فلا يجوز أن يعتبر تماثله بالوزن ، وأما الكيل : فلأن تفريق أجزاء الدقيق بالطحن واجتماع أجزاء الحنطة يحدث بينهما في المكيال اختلافا يحيط العلم بالفضل بينهما ، والتفاضل محظور بالنص .
وليس هذا كالطعام الخفيف بالطعام الثقيل ، لأن أجزاء الجميع مجتمعة ، وإنما خفت
[ ص: 110 ] أجزاء أحدهما وثقلت أجزاء الآخر ، وذلك غير معتبر فخالف الدقيق الذي قد تفرقت أجزاؤه ، فانبسطت بالحنطة التي قد انضمت أجزاؤها واجتمعت .
فصل : فإذا ثبت أن بيع الدقيق بالحنطة لا يجوز ، فكذا
ما حدث عن الدقيق من العجين والخبز والسويق لا يجوز بيعه بالحنطة ، أما العجين فلعلتين :
إحداهما : ما ذكرنا من علة الدقيق .
والثانية : دخول الماء فيه .
وأما الخبز فلثلاث علل منها هاتان العلتان .
والثالثة : دخول النار فيه . فأما السويق بالحنطة فلا يجوز لعلة واحدة كالدقيق بالحنطة .
فصل : فإذا
بيع الدقيق بالدقيق فعند
الشافعي أنه لا يجوز ، وقال
أبو حنيفة : يجوز .
وقد رواه
البويطي ، وحكاه
المزني في مسائله المنثورة عن
الشافعي لتساويهما في تفرق أجزائهما كما جاز بيع الحنطة بالحنطة لتساويهما في اجتماع أجزائهما ، ولم يجز بيع الدقيق بالحنطة لاجتماع أجزاء أحدهما وتفرق أجزاء الآخر . وهذا خطأ : لأن الدقيق وإن تفرقت أجزاء جميعه بالطحن فقد يكون طحن أحدهما أنعم ، فيكون تفريق أجزائه أكثر وهو في المكيال أجمع ، فيؤدي ذلك إلى التفاضل فيه : لأن الناعم المنبسط أكثر في المكيال من الخشن المجتمع ، أو يكون مجهول التماثل ، وأيهما كان فبيعه باطل : لأن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل . وإذا لم يجز بيع الدقيق بالدقيق فكذا لا يجوز بيع السويق بالدقيق لما ذكرنا من التعليل .
فأما الخبز إذا يبس ودق فتوتا ناعما ، وبيع بعضه ببعض كيلا ففيه وجهان :
أحدهما : يجوز : لأنه بعد اليبس والدق قد عاد أصله من قبل ، وقد حصل فيه التماثل بالكيل .
والوجه الثاني ، وهو أصح : لا يجوز : لأن الدقيق أقرب إلى التماثل من الخبز المدقوق الذي قد دخلته النار وأحالته ، فلما لم يجز بيع الدقيق بالدقيق ، فأولى ألا يجوز بيع الخبز المدقوق بالخبز المدقوق ، ولولا أن الوجه الأول مشهور من قول أصحابنا لكان إغفاله أولى : لمخالفته النص ومنافاته المذهب .
فصل : فأما إذا
اختلف الجنسان في بيع الدقيق بالدقيق ، أو الخبز بالدقيق جازه لجواز التفاضل فيه ، فعلى هذا يجوز بيع الدقيق البر بدقيق الشعير ، وخبز البر بخبز الشعير متفاضلا يدا بيد ، لاختلاف الجنسين : لأن الشعير من غير جنس البر .
[ ص: 111 ] وقال
مالك : البر والشعير جنس واحد ، فلا يجوز التفاضل بينهما . وبه قال
حماد ،
والليث بن سعد .
استدلالا بحديث
معمر بن عبد الله أنه وجه بغلام له ومعه صاع من بر ، فقال : اشتر به شعيرا ، فاشترى به صاعا من شعير ، وازداد صاعا آخر ، فلما رجع قال له : لم فعلت هذا . رده فإني كنت أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923002الطعام بالطعام مثل بمثل . قال : وطعامنا يومئذ الشعير .
فدل هذا الحديث على تحريم
التفاضل بين البر والشعير وأنهما جنس واحد .
قال : ولأن البر والشعير يتقاربان في المنفعة ويمتزجان في المشاهدة فجريا مجرى شامي وحبشاني .
والدلالة على أنهما جنسان حديث
عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923003 " ولكن بيعوا البر بالشعير ، والشعير بالبر ، والتمر بالملح ، والملح بالتمر ، كيف شئتم يدا بيد " .
فجوز التفاضل بينهما نصا مع قوله : فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم . فدل على أنهما جنسان .
ولأن الشعير مخالف للبر في صفته وخلقته ومنفعته ، وإن قاربه من وجه ، فحل من البر محل الزبيب من التمر ، فاقتضى أن يكونا جنسين كما أن الزبيب من التمر جنسان .
وأما الجواب عن حديث
معمر بن عبد الله فهو أن الدليل من الخبر قول
معمر دون روايته ، وليس مجرد قوله حجة مع مخالفة غيره .
وأما الجواب عما استدل به من تقاربهما في المنفعة وامتزاج أحدهما بالآخر ، فليس تقاربهما في المنفعة بموجب لاتفاقهما في الجنس كالتمر والزبيب . وليس امتزاج أحدهما بالآخر دليلا على أنهما جنس كالتراب الممتزج بالبر والشعير والله أعلم .