مسألة : قال
الشافعي - رحمه الله تعالى - : " وإذا اشترى بالدنانير دراهم بأعيانها فليس لأحد أن يعطي غير ما وقع عليه البيع " .
[ ص: 138 ] قال
الماوردي : وهذا كما قال .
الدراهم والدنانير تتعين بالعقد . فإذا
اشترى دنانير بدراهم معينة أو ثوبا بدنانير معينة تعينت بالعقد .
وفائدة التعيين ، أنه لا يجوز للمشتري أن يدفع غير الدراهم التي وقع عليها العقد ، ومتى تلفت قبل القبض بطل العقد .
وقال
أبو حنيفة : الدراهم والدنانير لا تتعين بالعقد ، ويجوز للمشتري أن يدفع مثل الدراهم التي وقع عليها العقد . فإن تلفت قبل القبض لم يبطل العقد : احتجاجا بقول
الفراء إن للثمن شرطين : أن تصحبه الباء ، وأن يكون في الذمة ، كقوله : بعتك هذا الثوب بدينار ، فلما كان اقتران الباء شرطا لازما اقتضى أن يكون ثبوته في الذمة شرطا لازما ، فهذا من طريق اللغة ومقتضى اللسان .
فأما من طريق الشرع ، فما روي
عن ابن عمر أنه قال : يا رسول الله ، إني أبيع الإبل بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم ، وآخذ الدنانير ، فقال : " لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء .
فموضع الدليل من هذا الخبر أن الدراهم والدنانير لو تعينت بالعقد لما جاز أخذ بدلها قبل القبض ، فلما جاز أخذ بدلها دل ذلك على أنها لا تتعين بالعقد .
ولأن الدراهم والدنانير لما جاز إطلاق ذكرها في العقد لم تتعين بالعقد ، كما أن غير الدراهم والدنانير من السلع والعروض لما لم يجز إطلاق ذكرها في العقد تعينت بالعقد ، ولأن تعيين الدراهم والدنانير غير مفيد : لأن الدراهم المعينة كغيرها من ذلك الجنس وإن تكن معينة ، فلما سقطت فائدة التعيين وجب أن يسقط حكمه ، كما أن تعيين الميزان والوزان لما كان غير مفيد لم يتعينا ، وجاز أن يوفيه الثمن بغير ذلك الميزان والوزان .
والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث
عبادة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923017 " لا تبيعوا الذهب بالذهب ، ولا الورق بالورق ، إلا سواء بسواء عينا بعين " .
فوصف الذهب والورق بالتعيين في العقد فدل على تعيينهما فيه .
ولأن كل ما تعين بالقبض جاز أن يتعين بالعقد كالثياب .
ولأن كل ما تعين فيه من غير الأثمان وجب أن تتعين فيه الأثمان كالقبض . ولأن كل سبب تعين به غير الأثمان تعين به الأثمان كالوديعة والقصب . ولأن كل ما تعين مصنوعه بالعقد وجب أن يتعين به غير مصنوعه كالصفر .
[ ص: 139 ] ولأن
كل ما لم يتعين بالعقد وجب أن يكون اشتراط التعيين فيه مبطلا لذلك العقد كالسلم . فلما كان اشتراط التعيين في الأثمان لا يبطل العقد دل على أنها تتعين بالعقد . ولأن العقد يشتمل على ثمن ومثمن ، فلما كان الثمن يتنوع نوعين : معين وهو البيع ، وغير معين وهو السلم ، اقتضى أن يكون الثمن أيضا يتنوع نوعين : معين بالإشارة وغير معين بالإطلاق .
وأما الجواب عن احتجاجه بقول
الفراء ، فهو أن الثمن قد يكون تارة ذهبا وورقا ، ويكون تارة عروضا وسلعا . فلما لم يكن قوله في العروض والسلع مبطلا لتعيينها ، جاز ألا يكون قوله في الذهب والورق مبطلا لتعيينها . على أن التعيين حكم شرعي فلم يكن قول أهل اللغة فيه حجة .
وأما الجواب عن استدلاله بحديث
ابن عمر ، فهو محمول على الأثمان المطلقة اعتبارا بغالب أحوال التجار في بياعاتهم ، وعرفهم الجاري في تجاراتهم .
وأما الجواب عن استدلاله بأن ما جاز إطلاق ذكره لم يتعين ، فهو أن إطلاق ذكره إنما جاز : لأن فيه نقدا غالبا وعرفا معتبرا ، ولو كان في جنس من العروض نوع غالب وعرف معتبر ، جاز إطلاق ذكره كالنقود ، ولو كانت النقود مختلفة لم يجز إطلاق ذكرها كالعروض : لأن ما تضمنه العقد لا بد أن يكون معلوما ويصير معلوما بأحد ثلاثة أوجه : إما بالإشارة ، وإما بالصفة ، وإما بالعرف . سواء كان ذلك ثمنا أو مثمنا .
وأما الجواب عن استدلاله بأن تعيين النقود غير مفيد ، فجرى مجرى تعيين الميزان والوزان اللذين لما لم يفيدا لم يتعينا بالعقد . فهو أن في تعيين النقود للناس أغراضا صحيحة ، ولو جاز أن يكون عدم الفائدة فيها يمنع من تعيينها بالعقد لجاز أن يكون ذلك مانعا من تعيينها بالقبض أو في الغصب .
فأما الميزان والوزان فلما كان المقصود منه مقدار المعقود عليه ، ولم يكن يملك بالعقد لم يتعين بخلاف النقود المملوكة بالعقد .