مسألة : قال
الشافعي رحمه الله تعالى : " ولا يرجع من اشترى الثمرة وسلمت إليه بالجائحة على البائع ، ولو لم يكن
سفيان وهن حديثه في الجائحة لصرت إليه ، فإني سمعته منه ، ولا يذكر الجائحة ثم ذكرها ، وقال : كان كلام قبل وضع الجوائح لم أحفظه ولو صرت إلى ذلك لوضعت كل قليل وكثير أصيب من السماء بغير جناية أحد ، فإما أن يوضع الثلث فصاعدا ولا يوضع ما دونه ، فهذا لا خبر ولا قياس ولا معقول " .
قال
الماوردي : وصورتها في
رجل باع ثمرة على رءوس نخلها ، وسلمت إلى المشتري ، وتلفت بالجائحة قبل جدادها ، فقد كان
الشافعي في القديم يذهب إلى أنها من ضمان بائعها وأن البيع باطل ، وبه قال
أبو عبيد ،
وأحمد وإسحاق .
ورجع عن هذا في الجديد ، وقال : تكون من ضمان المشتري فلا يبطل البيع ، بتلفها وبه قول
أبو حنيفة والليث بن سعد .
وقال
مالك ، رضي الله عنه : إن كان تلفها بجناية آدمي ، فهي من ضمان المشتري وإن
[ ص: 206 ] كانت بجائحة من السماء ، فإن كانت قدر الثلث فصاعدا فهي من ضمان البائع ، وإن كانت دون الثلث فهي من ضمان المشتري .
واستدل من جعل الجوائح مضمونة على البائع بحديث
سفيان بن عيينة ، عن
حميد بن قيس ، عن
سليمان بن عتيق ، عن
جابر بن عبد الله nindex.php?page=hadith&LINKID=923047أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع السنين وأمر بوضع الجوائح " .
وبحديث
ابن جريج ، عن
أبي الزبير ، عن
جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923048إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا ، بم تأخذ مال أخيك بغير حق " وهذا نص .
قالوا : ولأن الثمرة لا يتم قبضها إلا بحدها من نخلها ، بدليل أنها لو عطشت وأضر ذلك بها ، كان للمشتري الخيار في الفسخ بحدوث هذا العيب ، وما حدث من العيب بعد القبض لا يستحق به المشتري الخيار ، وإذا دل ذلك على أنها غير مقبوضة ، وجب أن تكون بالغة من مال بائعها : لأن ما لم يقبض مضمون على البائع دون المشتري .
قالوا : ولأن قبض الثمرة ملحق بمنافع الدار المستأجرة : لأن العرف في الثمار أن تأخذ لقطة بعد لقطة ، كما تستوفى منافع الدار مدة بعد مدة ، فلما كان تلف الدار المستأجرة قبل مضي المدة مبطلا للإجارة وإن حصل التمكين ، وجب أن يكون تلف الثمرة المبيعة قبل الجداد مبطلا للبيع وإن حصل التمكين .
ودليل قوله في الجديد أن
الجوائح لا يضمنها البائع ، ولا يبطل بها البيع ، ما رواه
الشافعي عن
مالك عن
حميد عن
أنس أن النبي ، صلى الله عليه وسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923049نهى عن بيع الثمار حتى تزهى ، قيل وما تزهى ؟ قال : حتى تحمر .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923015أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه " فموضع الدلالة منه هو أنه لو كانت الجائحة مضمونة على البائع لما استضر المشتري بالجائحة قبل بدو الصلاح ، ولما كان لنهيه عنه حفظا لمال المشتري وجها : لأنه محفوظ إن تلف في الحالين بالرجوع على البائع ، فلما نهى عن البيع في الحال التي يخاف من الجائحة فيها : لأن لا يأخذ مال المشتري بغير حق ، علم أن الجائحة لا تكون مضمونة على البائع ، وأنها مضمونة فيما صح بيعه على المشتري .
وروت
nindex.php?page=showalam&ids=16693عمرة بنت عبد الرحمن تارة مرسلا وتارة مسندا عن
عائشة رضي الله عنها أن
nindex.php?page=hadith&LINKID=923050رجلا من الأنصار ابتاع من رجل ثمرة فأصيب فيها فسأل البائع أن يحطه شيئا فحلف بالله أن [ ص: 207 ] لا يفعل ، فأتت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تألى فلان أن لا يفعل خيرا " .
فموضع الدلالة من وجهين :
أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج الحط عن المشتري مخرج الخير والفضل ، لا مخرج الوجوب والحتم .
والثاني : أنه لم يجبر البائع على الحط عن المشتري حتى بلغ البائع ذلك فتطوع بحطه عنه ، ولو كان واجبا لأجبره عليه .
وروى
الشافعي عن
يحيى بن حسان ، عن
الليث بن سعد ، عن
عياض بن عبد الله ، عن
أبي سعيد الخدري nindex.php?page=hadith&LINKID=923051أن رجلا اشترى ثمرا فأصيب فيها فكثر دينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تصدقوا عليه " . فتصدق الناس عليه ، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك " .
فلو أن الجوائح مضمونة على المشتري لما أحوجه إلى الصدقة ، وجعل لغرمائه ما وجدوه ، ولكان يجعلها مضمونة على بائعها ويضعها على المشتري .
ومما يدل على ذلك أيضا أن الثمرة تصير مقبوضة على رءوس نخلها بالتمكين والتخلية ، بدليل أن للمشتري بيعها بعد التمكين منها ، ولو لم تكن مقبوضة لم يجز ، وتلف بعد القبض كان من ضمان المشتري دون البائع .
ثم من الدليل على ذلك : أن كل ما كان مضمونا على المشتري فيما دون الثلث ، كان مضمونا عليه فيما زاد على الثلث قياسا على غير الثمار .
فإن قال
مالك : إن ما دون الثلث يلقطه الطير ، وتنشره النحلة غالبا فضمنه المشتري للعرف فيه ، وليس كذلك ما زاد على الثلث وبالجائحة .
قيل : هذا غلط : لأن ما يكون من ضمان أحد المتبايعين لا يقع الفرق فيه بين تلف قليله أو كثيره بعرف معتاد أو غيره .
ثم يقال : لم جعلته محددا بالثلث ؟ وهلا حددته بأقل منه أو وأكثر .
[ ص: 208 ] فإن قال : لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلث في حد الكثرة ، وما دونه في حد القلة فقال "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923052الثلث والثلث كثير " .
قيل : فالثلث جعله النبي صلى الله عليه وسلم في حكم ما دونه في جواز الوصية به ، وأنت جعلته في حكم ما زاد عليه فقد خالفت فيما تعلقت به ، ومعنى قوله والثلث كثير ، أي كثير القليل لأجل أنه ملحق بما هو أقل منه .
فأما الجواب عن حديث
سفيان أنه أمر بوضع الجوائح ، فمن ثلاثة أوجه :
أحدها : ما قاله
الشافعي من أنه حديث معلول لا يصح الاحتجاج به : لأن
سفيان وهنه : لأنه قال قد كان بعد نهيه عن بيع السنين ، وقبل أمره بوضع الجوائح كلاما لم أحفظه ، فيجوز أن يكون فيما لم يحفظه ما يدل على مراده بوضع الجوائح ، وبصرف حكمه عن ظاهره ، والله أعلم .
والجواب الثاني : وهو قول
أبي إسحاق أنه محمول على وضع الجوائح في بيع السنين المقترن به ، وما في معناه من بيوع الثمار الفاسدة .
والجواب الثالث : لبعض المتأخرين من أصحابنا : أن أمره بوضع الجوائح محمول على وضعها عن البائع دون المشتري : لأنه يحتمل الأمرين ، وليس أحدهما أولى من الآخر ، والله أعلم .
وأما الجواب عن الخبر الثاني قوله " فلا يأخذ منه شيئا " فمن وجهين :
أحدهما : وهو جواب
الطحاوي ، أنه محمول على ما قبل التسليم .
والثاني : أنه محمول على الندب والإرشاد ، كما قال : " تألى فلان أن لا يفعل خيرا " .
وأما الجواب عن قولهم : إنها على رءوس نخلها غير مقبوضة لأجل ما ثبت من الخيار بحدوث العطش فمن وجهين :
أحدهما : وهو جواب
ابن أبي هريرة رضي الله عنه أن ثبوت الخيار لا يمنع من ثبوت القبض ، قال : لأن المقبوض في خيار الثلاث يستحق رده بما حدث من العيوب في زمان الخيار ، وإن كان القبض تاما فكذا الثمرة ، ولا يكون الخيار دليلا على عدم القبض .
والجواب الثاني : أن خيار العطش إنما استحقه المشتري لوجوب السقي على البائع ، ولم يكن له بالتلف رجوع : لأن الحط لا يجب على البائع .
وقول
ابن أبي هريرة رحمه الله إن ما حدث بيد المشتري من العيب من زمان الخيار
[ ص: 209 ] يستحق به الرد ، فليس بصحيح عندي ، بل لا خيار له فيه : لأنه بالقبض قد صار مضمونا على المشتري ، فما حدث في النقص كان من ماله لأنه من ضمانه .
وأما الجواب عن الاستدلال بالدار المؤجرة فلا يصح الجمع بينهما ، لأن ما يحدث من منافع الدار غير موجود في الحال ولا يقدر المستأجر على قبضه ، فبطلت الإجارة بتلف الدار قبل المدة وليست الثمرة كذلك : لأنها موجودة يمكن المشتري أن يتصرف فيها ، ويحدث في الحال جميعها ، فلم يبطل البيع بتلفها بعد التمكين منها ، والله أعلم .