فصل : وأما الضرب الثالث : فهو أن
يبرأ البتة من كل عيب بها من غير أن يسميها ولا يقف المشتري عليها ، فالذي نص عليه
الشافعي في اختلاف
أبي حنيفة وابن أبي ليلى ، أن الذي يذهب إليه في الحيوان قضاء
عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يبرأ من كل عيب لم
[ ص: 272 ] يعلمه ، ولا يبرأ من عيب علمه حتى يسميه للبائع ، ويقفه عليه تقليدا ، وأن الحيوان يفارق ما سواه . وقال في اختلافه
ومالك : ولو ذهب ذاهب إلى أن من
باع بالبراءة برئ مما علم ومما لم يعلم لكان مذهبا يجافيه حجة .
واختلف أصحابنا لاختلاف نصه على ثلاثة مذاهب :
أحدها : وهو مذهب
أبي إسحاق المروزي وأبي علي بن خيران : أن المسألة على قول واحد وهو أن يبرأ في الحيوان من كل عيب لم يعلمه دون ما علمه ، ولا يبرأ في غير الحيوان من عيب أصلا سواء علمه أو لم يعلمه .
والمذهب الثاني : وهو قول
أبي علي بن أبي هريرة : أنه يبرأ في الحيوان مما لم يعلمه دون ما علمه ، ولا يبرأ في غيره الحيوان مما علمه وهل يبرأ مما لم يعلمه على قولين .
والمذهب الثالث : وهو قول
أبي العباس بن سريج ،
وأبي سعيد الإصطخري ،
وأبي حفص بن الوكيل : أن المسألة على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه يبرأ من كل عيب علمه أو لم يعلمه في الحيوان ، أو في غير الحيوان ، وهذا قول
أبي حنيفة .
والقول الثاني : أنه لا يبرأ من عيب أصلا سواء علمه أو لم يعلمه في الحيوان وغيره .
والقول الثالث : أنه يبرأ في الحيوان مما لم يعلمه دون ما علمه ، ولا يبرأ في غير الحيوان لا مما علمه ولا مما لم يعلمه .
فإذا قيل بالأول إنه يبرأ من كل عيب ، وهو قول
أبي حنيفة ، فوجهه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" المؤمنون عند شروطهم " ولما
nindex.php?page=hadith&LINKID=923103روي أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث قد درست وتقادمت ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : " إنكم تختصمون إلي ولعل أحدكم ألحن بحجته فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه إنما أقطع له قطعة من النار " فبكيا وقال كل واحد منهما قد تركت حقي لصاحبي فقال صلى الله عليه وسلم : " لا ولكن اقتسما واستهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه " . فلما أمرهما بالتحلل من المواريث المتقادمة المجهولة دل على
جواز الإبراء من المجهول ، ولأن الإبراء إسقاط حق فصح مجهولا ومعلوما كالعتق ، ولأن ما لا يفتقر إلى التسليم يصح مع الجهالة وما يفتقر إلى التسليم لا يصح مع الجهالة كالبيع ، فلما كان الإبراء لا يفتقر إلى التسليم صح في المجهول .
وإذا قيل بالثاني : إنه لا يبرأ من عيب ، فوجهه
nindex.php?page=hadith&LINKID=923104 " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغرر " والإبراء عن المجهول غرر : لأنه لا يقف له على قدر ، ولأن الإبراء كالهبة غير أن الإبراء يختص بما في الذمة والهبش بالأعيان القائمة فلما لم تصح هبة المجهول
[ ص: 273 ] لم يصح الإبراء عن المجهول ، ولأن كل جهالة يمكن الاحتراز منها لم يعف عنها كالجهالة بتوابع المبيع كالأساس وأطراف الأجداع وطمي البئر ، فلما أمكن الاحتراز من الجهال في الإبراء وجب أن تكون الجهالة مانعة من صحة الإبراء ، ولأن الرد بالعيب مستحق بعد لزوم العقد فلم يجز أن يسقط بشرط قبل لزوم العقد : لأنه إسقاط حق قبل وجوبه ، ألا ترى أن الشفيع لو عفا قبل الشراء لم تسقط شفعته بعد الشراء : لأنه أسقطها قبل وجوبها كذلك البيع بشرط البراءة .
وإذا قيل بالثالث : إنه يبرأ في الحيوان مما لم نعلمه دون ما علمه ، ولا يبرأ في غير الحيوان مما علمه ومما لم يعلمه . فوجهه قضاء
عثمان رضي الله عنه ، وهو ما روي أن
زيد بن ثابت ابتاع من
عبد الله بن عمر عبدا بثمان مائة درهم على شرط البراءة ، فوجد بالعبد عيبا ، فأراد رده على
ابن عمر ، فلم يقبله فتحاكما فيه إلى
عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فقال
لابن عمر : أتحلف أنك لم تعلم بهذا العيب فاتقى اليمين واسترد العبد ، فباعه بألف وستمائة درهم فقال : تركت اليمين لله فعوضني . فقد قضى
عثمان رضي الله عنه بالفرق في عيوب الحيوان بين ما علمه وما لم يعلمه ، وحكم بالبراءة مما لم يعلم ، وتابعه
زيد بن ثابت ،
وابن عمر رضي الله عنهما : لأن
زيدا رضي بقضائه
وابن عمر لم يقل بخلافه ، وإنما امتنع من قبوله : لأن العيب مما لم يعلم به . فإن قيل : فإذا كان هذا إجماعا ، فهلا استدل به
الشافعي ، ولم يجعله تقليدا
لعثمان ، قيل : لأن التصريح بالحكم إنما كان من
عثمان دون
زيد وابن عمر ، وإنما كان إمساكهما اتباعا
لعثمان .
فإن قيل : لما قلد
عثمان في هذا الحكم ، والتقليد عنده ليس بحجة ، قيل : لأن قول
عثمان في هذا الموضع حجة على مذهب
الشافعي في القديم والجديد وإن لم يجز التقليد عنده .
أما على قوله في القديم : فلأنه كان يرى قول الواحد من الصحابة - إذا انتشر ولم يظهر خلافه - حجة يقدم على القياس ، لا سيما إذا كان إماما ، وأما على قوله في الجديد : فلأنه يرى أن قياس التقريب إذا انضم إلى قول صحابي كان أولى من قياس التحقيق ، وقد انضم إلى قضاء
عثمان قياس تقريب ، فصار حجة يقدم على قياس التحقيق ، وهو ما ذكره
الشافعي : في أن الحيوان يفارق ما سواه : لأنه يغتذي بالصحة والسقم وتحول طبائعه ، وقلما يخلو من عيب وإن خفي ، فلم يكن الاحتراز من عيوبه الخفية بالإشارة إليها والوقوف عليها ، وليس كذلك في غير الحيوان : لأنه قد يخلو من العيوب ويمكن الاحتراز منها بالإشارة إليها لظهورها فدل على افتراق الحيوان وغيره من جهة المعنى مع ما ذكرنا من قضية
عثمان .