فصل : وإن كان
اختلافهما في صفة العقد دون أصله فعلى ضربين :
أحدهما : أن يكون اختلافهما فيما يخلو منه العقد كاختلافهما في قدر الثمن أو في صفته أو في قدر المثمن أو في صفته .
[ ص: 297 ] والضرب الثاني : أن يكون اختلافهما مما قد يخلو منه العقد ، كاختلافهما في الأجل أو في قدره ، أو في الخيار أو في قدره ، أو في الرهن أو في قدره ، أو في الضمين أو في عينه .
فأما الضرب الأول : وهو أن يكون اختلافهما فيما لا يخلو منه العقد من قدر الثمن أو صفته أو قدر المثمن أو صفته ، فالاختلاف في قدر الثمن أن يقول البائع : بعتك هذا العبد بألف درهم ويقول المشتري : بخمسمائة . والاختلاف في صفته أن يقول البائع : بدراهم صحاح ، ويقول المشتري : بمكسرة ، أو يقول البائع : بدراهم بيض ويقول المشتري : بدراهم سود ، والاختلاف في قدر المثمن أن يقول البائع : بعتك العبد بألف ، ويقول المشتري : بل بعتني كذا بألف ، أو يقول البائع بعتك هذا كذا من طعام بألف ، فيقول المشتري : بل بعتني العبد مع الفرس بألف . والاختلاف في صفة المثمن ، أن يقول : أسلمت إليك درهما في طعام ميساني ، فيقول : بل في طعام شامي ، أو في ثياب مروي ، فيقول : بل في مروي ، فإذا كان اختلافهما فيما ذكرت فقد اختلف الفقهاء في العقد على خمسة مذاهب :
أحدها : وهو مذهب
شريح والشعبي ، أن يقول فيه قول البائع : لأن المبيع على ملكه .
والمذهب الثاني وهو مذهب
أبي ثور وداود ، أن القول قول المشتري اعتبارا ببراءة ذمته .
والمذهب الثالث : وهو مذهب
مالك ، أن القول قول من الشيء في يده ، لأن فيه دلالة على ملكه .
والمذهب الرابع : وهو مذهب
أبي حنيفة ، أنه إن كانت السلعة تالفة فالقول قول المشتري ، وإن كانت باقية بحالها تحالفا .
والمذهب الخامس : وهو مذهب
الشافعي ، يتحالفان بكل حال سواء كانت السلعة قائمة أو تالفة ، ولا اعتبار باليد إلا أن يكون تلفها قبل القبض فإن ذلك مبطل للعقد .
واستدل
أبو حنيفة على أن تلف السلعة يمنع من التحالف ، ويوجب قبول قول المشتري ، بما روى
ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
إذا اختلف المتبايعان ولا بينة لواحد منهما والسلعة قائمة تحالفا أو ترادا " فشرط في التحالف بقاء السلعة ، فاقتضى انتقاء التحالف مع تلف السلعة ، وقال : ولأنه فسخ ثبت مع بقاء المبيع فوجب أن يسقط مع تلفه ، كالرد بالعيب . قال : ولأنه مبيع تلف عن عقد صحيح ، فوجب أن ينتفي عنه الفسخ أصله إذا تلف المبيع في خيار الثلاث بعد لزوم العقد ، وبطل أن يستحق مع تلفه الفسخ قال : ولأن المبيع إذا قبض بالقيمة فهو مضمون على مشتريه بالثمن ، فلو جاز تحالفه بعد الثمن لصار مضمونا عليه بالقيمة دون الثمن ، وهذا مما ينافي ضمان العقد .
والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه من تحالفهما مع بقاء السلعة وتلفها ما روي عن
[ ص: 298 ] النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923112البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " وكل واحد من المتابيعين منكر ومدع : لأن البائع يقول : بعت بألف ولم أبع بخمسمائة ، والمشتري يقول : اشتريته بخمسمائة ولم أشتره بألف . صح ذلك أن كل واحد منهما يجوز أن يقيم البينة ، والبينة لما تسمع من المدعي دون المنكر ، فدل على أن كل واحد منهما مدع بما يجوز أن يتحالفا مع بقاء السلعة بوفاق
أبي حنيفة ، واليمين عند
أبي حنيفة إنما تكون على المنكر دون المدعي فثبت كل واحد منهما منكر ، فصار كل واحد منهما مدعيا منكرا فوجب أن يتحالفا . ويدل على ذلك أيضا الحديث الذي رواه
الشافعي ، عن
ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923110إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع والمبتاع بالخيار " ولم يفرق بين بقاء السلعة وتلفها . فإن قيل : فقد شرط بقاء السلعة في التحالف في الخبر الآخر ، فصار هذا الإطلاق محمولا على ذلك التقييد ، كما حملتم إطلاق العتق في كفارة الظهار على التقييد العتق في كفارة القتل ؟ قيل : ليس هذا من المقيد الذي يحمل إطلاق جنسه عليه : لأن إطلاق خبرنا إنما يوجب تحالفهما مع بقاء السلعة وتلفها ، فصار قوله والسلعة قائمة بعض ما تناوله إطلاق خبرنا ، وذلك لا يوجب التخصيص : لأنه لا ينافيه . فإن قيل : فما الفائدة من قوله
إذا اختلفا والسلعة قائمة تحالفا مع استواء الحكم في قيامها وتلفها . قيل : يحتمل وجوها :
أحدها : التنبيه على حكم التحالف مع التلف : لأن بقاء السلعة يمكن معه اعتبار قيمتها ، فيغلب به قول من كانت دعواه أقرب إليه ، ومع التلف لا يمكن ، فلما أسقط اعتبار هذا وأوجب التحالف مع قيام السلعة كان وجوب التحالف مع تلفها أولى .
والثاني : أنه نص على بقاء السلعة إسقاطا لاعتبار اليد بخلاف قول
مالك حتى إذا تحالفا مع وجود اليد كان تحالفهما مع زوال اليد أولى .
والثالث : أنه نص على بقاء السلعة : لأن تلفها قد يكون مبطلا للعقد إذا كان قبل القبض ، وبقاؤها ليس يبطل معه العقد فيتحالفان مع بقائها ولا يتحالفان مع تلفها ، فإن قيل : فلا دلالة لكم في هذا الخبر : لأنه جعل القول فيه قول البائع ، وأنتم لا تقولون به . قيل : قد جعل المشتري بعد بالخيار ، ومن جعل القول قول البائع على الإطلاق لم يجعل للمشتري خيارا وإذا ثبت خيار المشتري بعد يمين البائع فخياره في قبول السلعة بما حلف عليه البائع ، أو يحلف بعده ويفسخ البيع ، وكذا القول في تحالفهما وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم البائع بالذكر لأنه المبتدئ باليمين . ويدل على المسألة من طريق المعنى أنه اختلاف في صفة عقد بيع صحيح فاقتضى أن يوجب التحالف .
أصله إذا كانت السلعة قائمة . ولأن ما يوجب فسخ العقد يستوي فيه الباقي والتالف كالاستحقاق . ولأنه فسخ لا يفتقر إلى تراضيهما فإذا صح مع تراد الأعيان صح مع تراد القيم
[ ص: 299 ] أصله إذا اشترى عبدا بجارية وتقابضا ، ثم تلفت الجارية ووجد بالعبد عيبا ، فله رده بالعيب واسترجاع قيمة الجارية لفسخ العقد بعد تلفها ، كما كان له فسخه مع بقائها .
فأما الجواب عن استدلالهم بحديث
ابن مسعود رضي الله عنه فقد مضى في معارضة خبرنا .
وأما الجواب عن قياسه على الرد بالعيب ، فالمعنى فيه أن العيب فيما تلف يقدر على استدراك ظلامته بالأرش فلم يفسخ وليس كذلك في اختلافهما : لأن كل واحد منهما لا يقدر على استدراك ظلامته إلا بالتحالف فجاز أن يتحالفا مع التلف . ولا وجه لقول إن السلعة بعد تلفها لا تقبل الفسخ كما لا يقبل ابتداء العقد ، وإن أقاله العبد الآبق لا تصح ولا تقبل الإقالة كما لا يقبل ابتداء العقد : لأنه يقول فيمن ابتاع عبدا وقتل في يد البائع : أن المشتري بالخيار بين أن يفسخ ويسترجع الثمن ، أو يقيم على البيع ويأخذ من القاتل قيمة العبد ، فقد جعل العقد بعد التلف قابلا للفسخ ، كذلك فيما جعلنا أصلا معه من بيع العبد بالجارية إذا تلفت ووجد بالعبد عيبا أن له رده بالعيب واسترجاع قيمة الجارية ، فجعل العقد بعد التلف قابلا للفسخ كما كان قبل التلف . وهاتان المسألتان ينقضان العلة .
وأما الجواب على قياسهم على خيار الثلاث فحكم الأصل غير مسلم فلم تسلم . فأما الجواب عن قولهم أن المقبوض عن البيع الصحيح مضمون بالثمن دون القيمة ، فهو أن هذا الاستدلال باطل بمبتاع العبد بالجارية إذا تلفت ووجد بالعبد عيبا : لأن الجارية قد كانت مضمونة بالعبد الذي هو الثمن ، ثم صارت بعد الفسخ بالعيب مضمونة بالقيمة دون الثمن . فأما من جعل القول في اختلاف المتابيعين قول البائع لأن المبيع على ملكه فيقابل بمثله . فيقال : يجب أن يكون القول قول المشتري لأن الثمن على ملكه فتساوى القولان وبطل التعليل .
وأما من جعل القول قول المشتري لأن الأصل براءة ذمته فيقابل أيضا بمثله ، والأصل أنه غير مالك لسلعة البائع فتساوى القولان وسقط التعليل .
وأما من جعل القول قول من السلعة في يده فيقابل أيضا بمثله ، فيقال : هاهنا سلعة في يد أحدهما ، وثمن في يد الآخر ، فيجب أن يكون القول قول من الثمن في يده فيتساوى القولان ، ويسقط التعليل ، ولما كان التعليل لهذه المذاهب كلها متقابلا في الجهتين لم يرجع قول أحد المتبايعين ، وصح مذهبنا في تحالفهما لتساوي حكمهما والله أعلم .