مسألة : قال
الشافعي رحمه الله تعالى : ( ومن
بيوع الغرر عندنا بيع ما ليس عندك وبيع الحمل في بطن أمه ، والعبد الآبق ، والطير والحوت قبل أن يصطادا ، وما أشبه ذلك " .
قال
الماوردي : وهذا كما قال . أما
بيع الغرر فقد ورد النهي عنه بثلاثة ألفاظ ، فروي أنه نهى عن بيع الغرر ، وروي أنه نهى عن عقد الغرر ، وروي أنه نهى عن الغرر . رواه ابن المسيب تارة مرسلا ، وتارة عن
أبي هريرة مسندا .
وقد رواه
يحيى بن أبي كثير ، عن
عطاء ، عن
ابن عباس أيضا .
وحقيقة الغرر : ما تردد بين جوازين متضادين الأغلب منهما أخوفهما ، فمن بيوع الغرر التي يبطل فيها ما ذكره
الشافعي :
وهو بيع ما ليس عندك ، وبيع الحمل في بطن أمه ، والعبد الآبق ، والطير والحوت قبل أن يصطادا . فذكر هذه الخمسة من بيوع الغرر وأبطل العقد عليها . ونحن نشرح القول في كل واحد منها .
أما قوله : ومن بيوع الغرر عندنا بيع ما ليس عندك ، فقد اختلف أصحابنا في مراده ، فقال بعضهم : أراد به أن
يبيع الرجل سلعة لا يملكها بيعا عن نفسه لا عن مالكها ، ثم يمضي فيبتاعها ويدفعها إلى مشتريها ، وهذا بيع باطل ، لا أعلم فيه خلافا : لورود النهي نصا فيه وهو ما روي
nindex.php?page=hadith&LINKID=923129أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحكيم بن حزام بعد قدومه إلى المدينة مسلما : " لم يبلغني يا حكيم أنك تبيع ما ليس عندك . لا تبع ما ليس عندك " . فهذا يدل على ما قلنا ، حتى يجوز قوم بهذا الحديث وجعلوه دليلا في إبطال السلم ، وهذا ليس بصحيح ، بل المقصود به ما ذكرنا .
وقد روي تفسيره بمثل ما قلنا عن
حكيم بن حزام أيضا . وروى
يوسف بن ماهك ، عن
حكيم بن حزام ، قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923130يا رسول الله يأتيني الرجل فيريد مني بيع ما ليس عندي أفأبتاعه له من السوق ، فقال : " لا تبع ما ليس عندك " .
وقال آخرون : بل أراد
الشافعي بقوله : ومن بيوع الغرر عندنا بيع ما ليس عندك ،
بيع العين الغائبة على خيار الرؤية ، فإن أصح القولين من مذهبه بطلان أصل البيع فيها : لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ، وبيع العين الغائبة غرر . واتفق أصحابنا على أن
الشافعي لم يرد بهذا القول بيع ملك الغير على إجازته : لأنه قد نص عليه من بعد ، واحتج على مخالفيه فيه " .
فصل : وأما
بيع الحمل في بطن أمه فباطل : لأنه غرر وقد نهي عن بيع الغرر . ولما روي
[ ص: 326 ] عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع التجر ، وهو بيع الحمل على أنه متفق عليه . وإذا بطل بيع الحمل في بطن أمه منفردا بطل بيع الأم دون حملها : لأن ما لا يصح أن يفرد بالعقد لا يصح أن يستثنى من العقد ، وهكذا لو كانت أمة حاملا بحر لم يجز بيعها : لأن بيع حملها لا يصح ، فصار مستثنى من العقد ، واستثناء الحمل من العقد لا يصح ، ولو ابتاع أمة أو شاة على أنها حامل كان في صحة البيع قولان :
أحدهما : يصح : لأن للحمل أمارات دالة عليه .
والقول الثاني : أن البيع باطل : لأنه شرط ما لا يتيقنه .
فصل : وأما
بيع العبد الآبق فباطل . وحكي عن
ابن عمر أنه جوز بيع الآبق ما لم يتقادم عهده . وعن
ابن سيرين أنه جوز بيعه إذا عرف مكانه .
والدليل على بطلان بيعه ، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ، وبيع الآبق من أعظم الغرر . وروي
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الآبق وهذا نص ، ولأن ما تعذر تسليمه لم يجز بيعه ، والآبق متعذر التسليم . فإذا ثبت أن بيع العبد الآبق لا يجوز ، فكذلك الجمل الشارد ، وكل شيء ضال أو ضائع ، فلو باع آبقا ثم وجده لم يلزمه تسليمه إلى المشتري : لفساد بيعه حتى يستأنفا بيعه بعد وجوده . وقال
أبو حنيفة رضي الله عنه : بيع الآبق فاسد ، فإن وجده بعد بيعه صح البيع الأول فيه ولزمه تسليمه .
لأن عنده أن
عقد البيع ينقسم ثلاثة أقسام : قسم ينعقد صحيحا ، وقسم ينعقد باطلا لا يصح من بعد ، وقسم يقع فاسدا قد يجوز أن يتعقبه الصحة من بعد ، كبيع العبد الآبق ، فإنه فاسد ، فإن وجد صح ، وكالبيع إذا اشترط فيه خيار أكثر من الثلاث فاسد إلا أن يبطل ما زاد على الثلاث قبل تقضي الثلاث ، فيصح . وهذا مذهب يغني ظهور فساده عن تكلف الدلالة عليه ، لأن فساد العقد لو جاز أن يصح لحادث من بعد لجاز أن يكون كل عقد ، ولجاز أن تكون شروط صحته معتبرة من بعد ، وفي هذا مخالفة الأصول فيما استقرت عليه أحكام العقود ، والله أعلم .
فصل : وأما
بيع الطير في الهواء فإن كان غير مملوك لم يجز لمعنيين :
أحدهما : عدم ملكه .
والثاني : تعذر تسليمه ، وإن كان مملوكا له لم يجز بيعه لمعنى واحد وهو تعذر تسليمه ، فلو كان الطير حماما قد يرجع بعد الطيران إلى برجه ، لم يجز بيعه أيضا ، لأنه قد لا
[ ص: 327 ] يعود ، فإن قيل : أليس لو باع عبدا قد أرسله في حاجة جاز ، وقد يجوز أن لا يعود ، فهلا كان الطير الألف مثله . قلنا : لأن العبد ليس يعجز الناس عن أخذه ، وإن بعد عن سيده ، فكان في حكم المقدور عليه ، ليس كذلك الطير : لأنه قد يعجز الناس عن أخذه ، وكان خروجه عن اليدين يرفع حكم القدرة عليه .
فأما إن كان الطير في برج مالكه : فإن كان باب البرج مفتوحا لم يجز بيعه : لأنه قد يقدر على الطيران فصار في حكم ما طار ، وإن كان باب البرج مغلقا جاز بيعه لظهور القدرة عليه وتسليمه بالتمكين منه في برجه ، وتمام قبضه بإخراجه من برجه . أما إذا فرخ الطائر في دار رجل لم يكن فرخه ، وكذا ما ولده الصيد في أرضه ، غير أنه أولى بصيده من جميع الناس لما يستحقه من التصرف في ملكه ، وإن له منع الناس عنه من دخول أرضه وداره .
فلو أن صاحب الدار باع فرخ الطائر أو ولد الصيد قبل أخذه لم يجز : لأنه وإن كان مقدورا عليه فلم يثبت ملكه عليه .
ألا ترى أن غير صاحب الدار لو أخذ الفرخ ملكه .
فأما
بيع نحل العسل فإن لم يكن طائرا لصغره أو لأنه قد حصل في كندوجه جاز بيعه بعد مشاهدته ، وإن كان قد خرج عن كندوجه طائرا لرعيه ثم يعود ليلا إلى كندوجه على عادة جارية ، ففي جواز بيعه وجهان :
أحدهما : لا يجوز ، وهو قول
أبي حنيفة : لأنه غير مقدور عليه في الحال كالطير الألف إذا طار .
والوجه الثاني : وهو قول
أبي العباس بن سريج أن بيعه جائز ، وإن كان طائرا بخلاف الطير الطائر . والفرق بينهما أن النحل إن حبس عن الطيران تلف : لأنه لا يقوم إلا بالرعي ولا يقع فيه إلا عند طيرانه ليرعى ما يستخلف عسلا ، وليس كذلك ما سواه من الطير ؛ لأن حبسه ممكن ومنفعته مع الحبس حاصلة .
فصل : وأما
بيع السمك في الماء : فإن كان في بحر أو بئر ولم يكن محرزا في بركة أو حوض لم يجز بيعه للمعنيين الماضيين في بيع الطير في الهواء .
وإن كان في بركة أو حوض وحظر عليه حتى لا يقدر على الخروج لم يخل حال السمك من أحد أمرين : إما أن يكون مشاهدا أو غير مشاهد : فإن كان غير مشاهد كان بيعه باطلا ، وغلط بعض أصحابنا فجعله كالعين الغائبة إذا بيعت لخيار الرؤية ، وهذا غلط : لأن العين الغائبة قد يمكن صفتها لتقدم مشاهدة البائع لها ، وهذا مما لم يتقدم مشاهدته ، ولا يمكن صفته ، ولا تعلم قلته ولا كثرته ، ولا جودته ولا رداءته .
فإن كان السمك مشاهدا لقلة الماء وصفائه ، وإن كان السمك كثيرا يمكن أخذه بغير آلة جاز بيعه للقدرة عليه ، وخالف فرخ الطائر الذي لا يجوز بيعه مع القدرة عليه : لأن حصول
[ ص: 328 ] الفرخ في أرضه بغير فعله وحصول السمك بفعله ، وإن كان لا يمكن أخذه إلا بآلة ولا يقدر على صيده إلا بشبكة ، فبيعه لا يجوز : لأنه لم يحصل بعد فوت القدرة .
وخرج
ابن سريج قولا آخر : أن بيعه جائز . وليس بصحيح لما ذكرنا ، والله أعلم بالصواب .