[ ص: 366 ] مسألة : قال
الشافعي رحمه الله تعالى : " وإذا كنا نأمر الوصي أن يشتري بمال اليتيم عقارا : لأنه خير له ، لم يجز أن يبيع له عقارا إلا لغبطة أو حاجة " .
قال
الماوردي : وهذا كما قال . لا يجوز للولي أن يبيع من مال اليتيم عقارا أو أرضا إلا في حالتين : غبطة أو حاجة ، ولا يجوز له فيما سوى هاتين الحالتين أن يبيع ذلك عليه ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=923177من باع عقارا ولم يرد ثمنه في مثله فذلك مال قمن أن لا يبارك فيه " أي : حقيق أن لا يبارك فيه .
ولأن الولي مأمور أن يبتاع بمال اليتيم عقارا فلم يجز أن يبيع عليه عقارا .
فإذا ثبت أنه لا يجوز أن يبتدئ
ببيع عقاره إلا في حالتي الغبطة والحاجة ، فالغبطة أن يكون له سهم مشاع من عقار يرغب فيه الشريك ليعمل له الملك فيبذل فيه أكثر من ثمنه ، أو يكون له عقار محوز يرغب فيه الجار أو غيره لعرض حصته ، فيزيد في ثمنه زيادة ظاهرة لا يجدها الولي من غيره ولا فيما بعد وقته .
فهذه غبطة ينبغي للولي أن يظفر بها ويأخذها لليتيم ، فيبيع لأجلها العقار ويأخذ ثمنه ، فيبتاع له به عقارا مسترخصا مغلا في موضع حي كامل العمارة أو متوجه إلى كمال العمارة . ولا يجوز أن يبتاعه في موضع قد خرب أو هو متوجه إلى الخراب : لما فيه من إضاعة ماله .
أما بيعه في الحاجة ، فالحاجة من وجوه :
منها : أن تكون غلة عقاره لا تكفيه ويحتاج إلى نفقة وكسوة لا يستغني عنها ، فلا بأس أن يبيع من عقاره قدر ما يصرفه في نفقته وكسوته . ومنها : أن تكون له ضيعة قد خربت أو عقار قد انهدم وليس له ما يعمره به ، فلا بأس أن يبيع من عقاره قدر ما يعمر به ما خرب من ضياعه أو انهدم من عقاره .
ومنها : أن يكون العقار في موضع قد كثر خرابه وخيف ذهابه ، فلا بأس أن يبيعه ليباع بثمنه في موضع عامر .
ومنها : أن يكون العقار في بلد يبعد عن اليتيم والولي فلا يقدر على مراعاته ويلزمه من أجرة القيم به أكثر من غلته ، فلا بأس أن يبيع ذلك ليبتاع بثمنه عقارا في بلد اليتيم والولي ، ليقرب على الولي مراعاته ويتوفر على اليتيم غلته . إلى غير ذلك من أشباه ما ذكرنا . فأما بيع عقاره في التجارة به فلا يجوز بحال لما قدمنا . والله أعلم بالصواب .
[ ص: 367 ] فصل : فإذا ثبت ما وصفنا من أموال الأيتام من بيع المتاع وشرائه للتجارة ، ومن بيع العقار في الغبطة والحاجة وشرائه للقنية ، فلا يخلو حال الولي المتولي ذلك من ثلاثة أقسام :
إما أن تكون
ولايته بأبوة ، وإما أن
تكون بوصية ، وإما أن تكون
بتولية حاكم عن أمانة .
فإن كانت ولايته بالأبوة : كالآباء والأجداد الذين يلون بأنفسهم على أولادهم وأموالهم ، فعقودهم في أموال أولادهم ماضية ، وعلى القضاة والحكام إنفاذها من غير تكليفهم بينة لحصول الحظ فيما عقدوه لهم وعليهم من بيع أو شراء ، إلا أن تقوم بينة بأن ما عقده الأب في مال ابنه من بيع أو شراء لم يكن حظا فيبطله حينئذ ، فإن لم تقم بينة ففعله ماض من غير بينة ، وقوله فيما أنفق مقبول من غير بينة ، ما لم يجاوز الحد : لانتفاء التهم عن الآباء لما جبلوا عليه من الميل إلى أولادهم وطلب الحظ الأوفى في تثمير أموالهم .
فأما
الأوصياء وأمناء الحكام فما فعلوه في أموال الأيتام ينقسم ثلاثة أقسام : قسم تقبل فيه أقوالهم من غير بينة بأن فيه حظا لهم إلا أن تقوم بينة بخلافه ، وهو التجارة لهم بالبيع والشراء ، فلا يكلفوا فيما باعوه واشتروه من الأمتعة والعروض إثبات البينة لحصول الحظ فيه ، بل على الحكام إمضاؤه بقولهم إنه حظ ، ما لم تقم بينة بخلافه : لأنها عقود يعسر إقامة البينة بحصول الحظ في كل عقد منها اعتبارا بالمضاربة في قبول قول العامل في صحة ما عقده من بيع وشراء من غير بينة يكلفها . فهذا أحد الأقسام .
والقسم الثاني : ما لا يقبل فيه أقوالهم إلا ببينة ، وهو ما باعوه على الأيتام من أرض أو عقار ، فلا يجوز للحكام إمضاء العقد فيه إلا بقيام البينة أن بيع ذلك حظ لوجود الغبطة أو حدوث الحاجة : لأن الأصل في بيع ذلك على الأيتام الحظر والمنع إلا عند تحقق السبب المبيح .
والقسم الثالث : ما اختلف فيه ، وهو ما ابتاعوه للأيتام من عقار فبنوه ، ففيه وجهان :
أحدهما : أن قولهم مقبول فيه ، وعلى الحكام إمضاؤه من غير تكليف بينة إلا أن يثبت عندهم بينة بخلافه ، كما يقبل قولهم في أموال التجارات ، وكما يقبل قول الآباء في البياعات .
والوجه الثاني : أن قولهم غير مقبول إلا ببينة تثبت بأن ما ابتاعوه للأيتام حظ ، فإذا قامت به البينة عند الحكام وجب عليهم إمضاؤه ، وما لم تقم به البينة لم يمضوه ، كما لا يقبل قولهم في البيع ، وإن قبل فيه قول الآباء ؛ لأن التهمة تلحقهم دون الآباء ، ولأن إقامة البينة بذلك لا تشق عليهم ؛ والله أعلم .