فصل : في بيان
حكم بيع دور مكة وإجارتها
فأما بيع دور
مكة وعقارها ، فلا بأس به وبإجارتها أرضها وبنائها . ورواه
الحسن بن زياد ، عن
أبي حنيفة .
وقال
مالك : لا يجوز بيعها ولا إجارتها من الواردين إليها .
ورواه
أبو يوسف ، ومحمد ، عن
أبي حنيفة ، تعلقا بقوله تعالى :
والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد [ الحج : 25 ] فسوى بين جميع الناس فيه
[ ص: 386 ] وأراد
بالمسجد الحرام جميع الحرم . وقال تعالى :
إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها
[ النمل : 91 ] . فجعلها حراما ، والحرام لا يجوز بيعه .
وروى
ابن أبي نجيح ، عن
عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
رباع مكة لا تباع ولا تؤاجر .
( وروى
علقمة بن نضلة الكناني ) قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر وعمر وعثمان وكانت بيوت
مكة تدعى بالسوائب . ومعناه طلق ، تشبيها بالسوائب .
ولأنها بقعة يضمن صيدها بالجزاء ، فلم يجز بيعها كالمسجد الحرام .
والدلالة على جواز بيعها قوله تعالى :
للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم [ الحشر : 8 ] فأضاف الديار إليهم كإضافة الأموال إليهم ثم ثبت أن أموالهم كسائر أموال الناس في تمليكها وجواز بيعها فكذلك الديار .
وروى
أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح
مكة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923199 " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " فأضاف الدار إليه .
nindex.php?page=hadith&LINKID=923200وروى أسامة بن زيد قال : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أين تنزل أفي دور عماتك أو خالاتك ؟ فقال : وهل ترك لنا عقيل من ريع ، نحن إن شاء الله نازلون بخيف بني كنانة من منى .
فموضع الدليل منه أن
عقيل بن أبي طالب ورث أباه مع أخيه
طالب دون
علي وجعفر : لأن
أبا طالب مات كافرا ، وكان
عقيل وطالب كافرين ، وكان
علي وجعفر مسلمين ، فباع
عقيل دور أبيه التي ورثها ، فلو لم تكن مملوكة وكان بيعها باطلا لما أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأقر ملك الدور على حكمها الأول .
ولأنه إجماع السلف وأهل الأعصار من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى وقتنا يتبايعون منازل
مكة ويشاهدون ذلك من غيره ولا ينكر ذلك واحد منهم فكان إجماعا .
وقد روي أن
أبا سفيان باع دار
بني جحش بمكة فذكر
عبد الله بن جحش ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألا
[ ص: 387 ] ترضى يا
عبد الله أن يعطيك الله تعالى دارا هي خير منها في الجنة ؟ قال : بلى . قال : فذلك لك .
فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم
مكة كلمه
أبو أحمد بن جحش في دارهم فأمسك عنه كراهة أن يرجع في شيء أصيب من أموالهم في الله تعالى فقال
لأبي سفيان : ألا بلغ أبا سفيان عن أمر عواقبه ندامة دار ابن عمك بعتها تقضي بها عنك الغرامة اذهب بها اذهب بها طوقتها طوق الحمامة
فموضع الدليل من هذا هو أنه لو لم يكن للبيع تأثير ما جعل المشتري أحق ، ولأنه أحد الحرمين فجاز أن يصح بيع منازله وعقاره
كالمدينة .
فأما الجواب عن قوله تعالى :
والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء [ الحج : 25 ] ، فهو أنه محمول على موجب اللفظ في أن المراد به نفس المسجد دون غيره من
مكة .
وأما قوله تعالى :
إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها [ النمل : 91 ]
يعني حرم صيدها وشجرها .
وأما احتجاجهم بالخبر فمنقطع : لأن
ابن أبي نجيح لم يلق
عبد الله بن عمرو ، ولأن الحديث موقوف على
عبد الله بن عمرو ، ولو ثبت لكان محمولا على الاستحباب .
وأما قول
علقمة بن نضلة أن بيوت
مكة كانت تدعى السوائب ، فالسائبة لا حكم لها عندها ، وقد أبطلها الله تعالى في كتابه .
على أنه يجوز أن يكون قال ذلك لكثرة الوقوف بها . فقد قال
الشافعي رضي الله عنه قدمت
مكة ومعي مال ، فقيل لي لو اشتريت بها دارا تكون لأهلك فلم أفعل لعلمي بكثرة الوقوف بها .
وأما قياسهم على
المسجد الحرام فممتنع : لأن المساجد المحرمة لا يجوز أن يقاس عليها المنازل المسكونة في تحريم البيع . ألا ترى أن سائر مساجد البلاد لا يدل تحريم بيعها على تحريم الدور والمنازل بها ؛ والله أعلم .