مسألة : قال
الشافعي رحمه الله : " ولا معنى للرهن حتى يكون مقبوضا من جائز الأمر حين رهن وحين أقبض " .
قال
الماوردي : وقد ذكرنا أن
الرهن لا يتم إلا بالعقد والقبض .
فأما العقد فهو بدل من الراهن وقبوله من المرتهن على الفور من غير تراخ ولا بعد ، وأما القبض فهو تسليم من الراهن أو وكيله إلى المرتهن أو وكيله ، وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون جائزا في الأمر عند
العقد والقبض وجواز أمرهما أن يجوز تصرفهما في أموالهما ببلوغهما وعقلهما وارتفاع الحجر عنهما ، فإذا كانا كذلك عند العقد وعند القبض فقد تم الرهن وصار لازما للراهن دون المرتهن .
وإن كانا أو أحدهما غير جائزي الأمر عند العقد لصغر أو جنون أو حجر حاكم ، ثم جاز أمرهما عند القبض لم يجز ، وكان القبض فاسدا لفساد العقد ، وأخذ قابض الرهن برده ، ولهما استئناف عقده ، وتجديد قبضه .
فلو كانا جائزي الأمر عند العقد ، ثم طرأ الحجر عليهما أو على أحدهما بجنون أو سفه فتقابضاه كذلك فالقبض فاسد ، لأنه قبض لا يجوز إقباضه ، أو إلى من لا يجوز قبضه ولكن العقد على حاله صحيح ، حتى يتعقبه قبض صحيح فيلزم حينئذ .
فصل : فأما إذا كانا رشيدين عند العقد وعند القبض ، لكن تخلل بين العقد وبين القبض عدم رشدهما وهو أن يكونا عاقلين ، فيعقدا الرهن ، ثم يجن أحدهما ، ثم يفيق فيقبضه بعد الإفاقة ، فمذهب
الشافعي : جواز الرهن وتمامه لوجود الرشد في العقد والقبض ، فلم يكن ما تخللهما من الجنون قادحا في صحته .
وقال بعض أصحابنا : يبطل العقد بجنون أحدهما قبل القبض .
قال : لأن عقد الرهن
[ ص: 9 ] قبل القبض من العقود الجائزة دون اللازمة ، والعقود الجائزة تبطل بالجنون والموت ، كالوكالات والشرك والجعالات وهذا غلط : لأن العقود الجائزة التي تبطل بالجنون والموت ما لا يفضي إلى اللزوم ،
وعقد الرهن يفضي إلى اللزوم ، فلا يبطل بالجنون والموت كالبيع في مدة الخيار .
فصل : وإذا
تعاقدا الرهن وهما رشيدان ثم جن المرتهن فلوليه أن يقبض الرهن من الراهن ، فإذا قبضه فقد تم الرهن ، وقام مقام قبض المرتهن له وهو رشيد وعلى قول من أبطل العقد من أصحابنا بجنون أحدهما يمنع من قبض ولي المرتهن ، إلا أن يستأنف الرهن بعقد جديد .
ولو
كان المجنون منهما هو الراهن فأراد وليه أن يتولى إقباض الرهن للمرتهن فعلى قول من أبطل الرهن بجنون أحدهما لا يجوز للولي تسليمه إلى المرتهن ، فإن فعل ضمن .
فأما على مذهب
الشافعي ، فيعتبر حال الرهن فإن لم يكن في تسليمه حظ للراهن لم يكن لوليه أن يسلمه : لأن الرهن وإن كان لا يبطل على مذهب
الشافعي بجنون أحدهما ، فتسليمه وإن صح العقد غير لازم ، والولي ليس له أن يخرج من ماله ما ليس بلازم له .
وإن كان في تسليم الرهن حظ للراهن ، وهو أن يكون مشروطا في بيع فيه فضل وإن لم يسلم الرهن فسخه البائع فهل يجوز له تسليمه أم لا ؟ على وجهين : أحدهما : لا يجوز لما قدمنا من التعليل .
والوجه الثاني : جائز لما يعود على المولى عليه من الفضل بتسليم الرهن .
فصل : فأما
صفة القبض في الرهن ، فهو مجامع للقبض في البيع من وجه ومخالف له من وجه ، فالموضع الذي يجامعه فيه هو قبل قبضه الثمن ، والموضع الذي يخالفه فيه هو بعد قبض الثمن ، وذلك أن القبض في الرهن لا يصح حتى يكون بإقباض من الراهن أو وكيله فيه إلى المرتهن أو وكيله فيه .
فأما
صفة الإقباض من جهة الراهن ، فإنه يعتبر بحال الرهن ، فإن كان مما لا يحتاج إلى كيل ولا وزن ، فإقباض الراهن له : أن يأذن للمرتهن في قبضه ويسلطه عليه .
وقبض المرتهن له أن ينقله إن كان منقولا ، أو يتصرف في رقبته دون منفعته إن كان غير منقول .
وتصرفه في رقبته : أن يرفع عنه يد مالكه ، فيتم القبض هاهنا بإذن الراهن وقبض المرتهن .
[ ص: 10 ] وإن
كان الرهن مما يحتاج إلى كيل أو وزن فهو كأن يرهنه قفيزا من صبرة فلا يتم إقباض الراهن له بمجرد الإذن للمرتهن حتى يتولى كيله له بنفسه أو بوكيله ويتولى المرتهن اكتياله منه بنفسه أو بوكيله فيتم القبض بفعلهما جميعا .
فلو قبضه المرتهن بإذن الراهن من غير أن يتولى كيله عليه بنفسه ، أو بوكيله ، لم يصح القبض ، ولم يتم الرهن .
وكذا كما لو قال له الراهن : قد وكلتك في قبضه لنفسك لم يصح لأنه لا يجوز أن يكون قابضا من نفسه لنفسه .
وكذلك لو وكل الراهن رجلا أن يقبض عنه ، ووكله المرتهن أن يقبض له صار ذلك الوكيل نائبا عن الراهن في الإقباض عنه ، ونائبا عن المرتهن في القبض له لم يجز ، وكان هذا قبضا فاسدا لا يتم به الرهن ، لأنه يصير قابضا من نفسه ، وهذا غير جائز .
فأما القبض في البيع فإن كان البيع مكيلا أو موزونا ، فلا بد من إقباض البائع بنفسه ، أو بوكيله أو قبض المشتري بنفسه أو بوكيله كما قلنا في الرهن ، سواء قبض البائع الثمن أم لا .
فإن تسلط المشتري عليه فقبضه بنفسه من غير إقباض البائع ، لم يصح القبض لكن يصير في ضمانه وإن كان المبيع غير مكيل ولا موزون فإن كان البائع لم يقبض الثمن لم يصح قبض المشتري له إلا بإذن البائع ، كما قلنا في الرهن ، فإن قبضه المشتري من غير إذن البائع ، كان قبضا فاسدا ، وكان للبائع انتزاعه من يده ، لأن للبائع أن يحبسه على ثمنه .
وإن كان البائع قد قبض الثمن ، فالقبض فيه يصح بقبض المشتري له سواء أذن البائع له في قبضه أم لا ، لأنه بقبض ثمنه قد لزمه رفع يده ، ولم يبق له حق في منعه ، فلم تفتقر صحة القبض إلى إذنه .
فصل : أما
ما يفسد الرهن بعد العقد وقبل القبض فأمور :
منها : أن يبيعه الراهن بعد رهنه وقبل قبضه فيبطل عقد الرهن .
ومنها : أن يقفه على الفقراء والمساكين ، أو على قوم معينين .
ومنها : أن يجعله صداقا لزوجته .
ومنها : أن يقر به لرجل .
ومنها : أن يكون عبدا فيعتقه أو يكاتبه ، فيبطل الرهن في هذه الأحوال كلها لزوال ملكه فيما سوى المكاتب وعدم تصرفه في المكاتب فإن
كان عبدا فدبره فهل يبطل عقد الرهن أم لا ؟ على قولين .
[ ص: 11 ] أحدهما : يبطل لأنه وإن كان باقيا على ملكه ، وجواز تصرفه ، فالتدبير تصرف يخالفه عقد الرهن فأبطله .
والقول الثاني : أن الرهن لا يبطل ، لاستواء تصرفه فيه قبل التدبير وبعده ، فلو وهبه وأقبضه أو رهنه من غيره وأقبضه بطل رهن الأول بزوال ملكه بالهبة وانعدام تصرفه بالرهن ، ولكن لو وهبه ولم يقبضه أو رهنه ولم يقبضه ، كان في بطلان الرهن قولان كالتدبير .
وأما إذا آجره فلا يبطل عقد الرهن لأنه لما جاز أن يؤاجره بعد القبض ، لم يبطل بإجارته قبل القبض ،
ولو كانت أمة فزوجها لم يبطل عقد الرهن ، لأنه لما لم يبطل الرهن بتزويجها بعد القبض ؛ لم يبطل بتزويجها قبل القبض ، ولو وطئها الراهن فإن حبلت من وطئه بطل الرهن ، وإن لم تحبل لم يبطل الرهن .
فإن قيل : لو وطئها البائع في مدة خياره كان وطؤه فسخا للبيع
فهلا كان وطء الراهن قبل القبض مبطلا للرهن ؟ قيل : لأن وطء البائع ينافي البيع ، فكان فسخا وليس وطء الراهن ينافي الرهن وإنما يمنع منه بحق المرتهن فإذا أذن له جاز . وقبل القبض لم يلزم حق المرتهن وليس الوطء منافيا له فلم يكن فسخا .