مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " ولو
قال أرهنك داري على أن تداينني فداينه لم يكن رهنا حتى يعقدا الرهن مع الحق أو بعده ( قال ) حدثنا
الربيع عن
الشافعي قال لا يجوز إلا معه أو بعده فأما قبله فلا رهن " .
قال
الماوردي : والثاني أن يعقد مع ثبوت الدين .
والثالث : أن يعقد قبل ثبوت الدين .
فأما الضرب الأول :
الحال الأولى : وهو أن
يعقد بعد ثبوت الدين فهو أن يستقر الدين في ذمة رجل من بيع أو قرض أو أرش جناية ، أو ضمان صداق ، أو غير ذلك من الحقوق ، فيصير الدين ثابتا في ذمة من هو عليه بغير رهن ، ثم إن من عليه الدين يدفع إلى صاحب الدين رهنا به ، فهذا يكون متطوعا بالرهن لأنه لو لم يعطه بذلك رهنا لم يكن لصاحب الدين مطالبته برهن ، فإذا رهنه بالدين شيئا وأقبضه فقد لزم الرهن وليس له استرجاعه إلا بعد فكاكه .
وأما الضرب الثاني :
الحالة الثانية : وهو أن
يعقد الرهن مع ثبوت الدين من غير تقديم ولا تأخير ، وهذا
[ ص: 20 ] يكون في موضعين : إما في البيع ، وهو أن يقول : بعتك عبدي هذا بألف على أن تعطيني دارك رهنا ، أو في القرض ، وهو أن يقول : قد أقرضتك هذه الألف على أن تعطيني عبدك رهنا ، فيصير الرهن معقودا مع ثبوت الدين من غير تقدم عليه ولا تأخر عنه ، فهذا أيضا رهن جائز ، لأن كل وثيقة صحت بعد ثبوت الدين صحت مع ثبوت الدين كالشهادة .
فإذا ثبت انعقاد الرهن ، فالراهن بالخيار بين
إقباض الرهن ، وبين منعه ، فإن أقبض الرهن ، فلا خيار للمرتهن البائع ، وإن منع إقباضه كان المرتهن بالخيار بين إمضاء البيع بلا رهن ، وبين فسخه ، ولا يجبر الراهن على إقباضه وإن كان مشروطا في بيع .
وقال
أبو حنيفة : يجبر الراهن على إقباضه إذا كان مشروطا في بيع ، ولا يكون مخيرا فيه لأنه بالشرط قد صار صفة لعقد لازم ، فوجب أن تجري عليه أحكام العقد في اللزوم كالخيار والأجل .
ودليلنا : هو أنها وثيقة لا يجبر عليها بعد ثبوت الدين ، فوجب ألا يجبر عليها مع ثبوت الدين كالشهادة والضمان .
ولأن كل دين لا يجبر فيه على إقامة ضمين لم يجبر فيه على إقباض رهن .
أصله : الدين المستقر بغير ضمين ولا رهن .
فأما قوله : إن الرهن قد صار بالشرط صفة للبيع ، فوجب أن يلزم كالخيار والأجل فغير صحيح ، لأن الخيار والأجل لا يصح انفرادهما عن العقد أن يصيرا صفة للعقد ، والرهن عقد على حاله ، فوجب أن ينفرد بحكمه ، ولا يصير صفة لغيره .
فصل : الضرب الثالث : وهو أن
يعقد الرهن قبل ثبوت الدين ، فهو أن يقول : قد رهنتك داري على أن تداينني ، أو تبايعني ، أو على ما يحصل لك علي ، فهذا رهن باطل لتقدمه على الدين ، وكذلك في الضمان إذا ضمن له مالا قبل ثبوته .
وقال
أبو حنيفة :
تقدم الرهن والضمان على ثبوت الدين جائز لجوازه بعد ثبوته استدلالا بقوله تعالى :
فرهان مقبوضة [ البقرة : 283 ] .
فجعل
لزوم الرهن بالقبض من غير أن يشترط فيه تقدم الحق ، فدل على استواء حكمه قبل وبعد .
ولو كان تقدم الحق شرطا في صحته لقيد الرهن به ، كما قيده بالقبض .
قال : ولأن الرهن عين هي وثيقة للبائع في الحق ، فلم يمتنع تقدمها على الحق كالبائع
[ ص: 21 ] يحبس المبيع في يده لاستيفاء ثمنه ، وإن كان مستديم اليد قبل حقه ، كذلك يجوز أن يحبس البائع رهنا في يده قبل ثبوت الحق .
قال : ولأن حكم عقد الرهن والضمان سواء عندنا وعندكم بعد الحق وقبله ثم قد أجمعنا وإياكم على جواز
الضمان قبل ثبوت الحق في ثلاثة مواضع ، فكذلك في كل موضع ، فإذا جاز الضمان في موضع جاز الرهن معه في كل موضع ، لأنكم قد سويتم بينهما بعد الحق في الجواز ، وقبل الحق في المنع .
وأحد
المواضع الثلاثة التي يجوز فيها الضمان قبل ثبوت الحق أن يقول : ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه ، أو أعتق عبدك عني وعلي قيمته ، فإذا ألقى متاعه ، أو أعتق عبده ، لزمه ضمان قيمته بما تقدم من ضمانه .
والثاني : ضمان الدرك قبل استحقاق المبيع ، فإذا استحق لزم الضامن غرم ثمنه لما تقدم من ضمانه .
والثالث : ضمان نفقات الزوجات إذا ضمنها عن الزوج أجنبي لزمه ضمانها ، وإن كان ضمانه قبل وجوبها .
ودليلنا هو أنها وثيقة يمكن أن يستوثق بها مع الحق ، فلم تصح قبل ثبوت الحق كالشهادة ، ولأن
كل حال لا يجوز أن يستوثق فيها بالشهادة ، لم يجز أن يستوثق فيها بالرهن والضمان .
أصله : إذا قال : قد ضمنت لك ما تداين به الناس كلهم ، أو قد رهنتك هذا على ما تداين به الناس كلهم ؟ ولأن الارتهان هو احتباس بالحق ووثيقة فيه فلم يجز تقدم الاحتباس على غير حق يقع به الاحتباس .
ولأن هذا عقد رهن بصفة ، والعقود لا يجوز أن تعلق بالصفات ، كقوله : إذا قدم زيد فقد رهنتك عبدي ، ولأن ما يداينه في ثاني حال مجهول القدر ،
والرهن في المجهول لا يصح ، فأما الآية فحجة عليه لأنه تعالى قال :
إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه [ البقرة : 283 ] ثم قال تعالى
وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة [ البقرة : 283 ] فكان الدين المذكور شرطا في صحة الرهن ، كالقبض المذكور ، وأما ما ذكره من حبس المبيع بيد متقدمة فغلط لأنه ليس يحبس المبيع بيده المتقدمة ، وإنما يحبسه بعقد
[ ص: 22 ] البيع الحادث ، وأما الذي ذكره من صحة ضمان ما لم يجب في ثلاثة مواضع ، فالجواب عنه ما نحكيه من مذهبنا شرحا وانفصالا :
أما تقدم الضمان بقوله : ألق متاعك في البحر وعلي قيمته ، فليس هذا بضمان ، وإنما استدعاء الإتلاف بعوض يجري الحكم فيه مجرى المعاوضات لأمرين :
أحدهما : أن الضمان إنما يلزم باللفظ ، والضمان هاهنا يلزم بالإتلاف ، لا باللفظ .
والثاني : أن الضمان لا يصح إلا بثلاثة أنفس : ضامن ، ومضمون عنه ، ومضمون له ، وليس كذلك هاهنا فسقط الاحتجاج به .
فصل : وأما
ضمان درك المبيع قبل استحقاقه ، فمذهب
الشافعي رحمه الله جوازه .
وقال
أبو العباس بن سريج : ضمان الدرك لا يجوز لأنه ضمان مال قبل وجوبه ، وهذا غلط ، بل ضمانه جائز ولا يكون ضامن مال قبل وجوبه ، لأنه ليس يخلو إما أن يكون المبيع مستحقا أو ملكا ، فإن كان ملكا فالضمان لم يجب ، وإن كان مستحقا فقد استحق ثمنه بالقبض فيكون من ضمان ما قد وجب .
فإن قيل :
إذا جاز ضمان الدرك فهل لا جاز أخذ الرهن فيه ؟
قيل : الفرق بينهما من وجهين :
أحدهما : أن ضمان الدرك واجب على البائع ، فجاز أن يضمنه عنه أجنبي ، ودفع الرهن غير واجب على البائع فلم يجز أن يرهن عنه أجنبي .
والثاني : أن في أخذ الرهن إضرارا براهنه ، إذ ليس يعلم وقت استحقاقه ، وليس في الضمان إضرار بضامنه فجاز الضمان لزوال الضرر فيه ، ولم يجز الرهن لحصول الضرر فيه .
فصل : وأما
ضمان نفقات الزوجات ففي جوازه قولان :
أحدهما : لا يجوز ضمانها وهذان القولان مبنيان على اختلاف قولي
الشافعي :
متى تجب نفقة الزوجة ؟ فعلى قوله في الجديد تجب بالعقد والتمكين ، فعلى هذا ضمانها باطل لأنه ضمان ما لم يجب .
والثاني : وهو قوله في القديم : تجب بالعقد جملة ، ويستحق قبضها بالتمكين فعلى هذا ضمانها جائز ، لأنه ضمان ما وجب ، وفي جواز
أخذ الرهن بها وجهان :
أحدهما : يجوز الضمان .
والثاني : لا يجوز كالدرك .