[ ص: 23 ] مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " ويجوز ارتهان الحاكم وولي المحجور عليه له ورهنهما عليه في النظر له وذلك أن يبيعا ويفضلا ويرتهنا فأما أن يسلفا ويرتهنا فهما ضامنان لأنه لا فضل له في السلف يعني القرض ، ومن قلت لا يجوز ارتهانه إلا فيما يفضل من ولي ليتيم أو أب لابن طفل أو مكاتب أو عبد مأذون له في التجارة فلا يجوز له أن يرهن شيئا لأن الرهن أمانة والدين لازم ( قال ) فالرهن نقص عليهم فلا يجوز أن يرهنوا إلا حيث يجوز أن يودعوا أموالهم من الضرورة بالخوف إلى تحويل أموالهم أو ما أشبه ذلك " .
قال
الماوردي : وقد مضى الكلام فيمن يرهن ويرتهن لنفسه ، فأما
المولى عليه لصغر أو سفه أو جنون فلا يجوز له التصرف في ماله برهن ولا ارتهان .
ويتولى ذلك وليه من أبيه أو وصي للورثة أو أمين حاكم ، فإذا أراد الولي ذلك فالحكم فيه مشتمل على فصلين :
أحدهما : في الارتهان له في ذمته .
والثاني : في الرهن عليه في ماله .
فأما الفصل الأول وهو
الارتهان له في دين ثبت له فعلى ضربين :
أحدهما : أن يرتهن له في دين متقدم قد استقر في ذمة من هو عليه بغير رهن فيأخذ له على ذلك رهنا ، فهذا جائز : لأن أخذ الرهن في دين قد استقر بلا رهن زيادة وثيقة وفضل نظر .
والضرب الثاني : أن يرتهن له في دين مستحدث بعقد وذلك في شيئين :
أحدهما : في شيء يبيعه من ماله .
والثاني : في شيء يقرضه من ماله .
فأما البيع إذا كان لغبطة أو حاجة فعلى ضربين :
أحدهما : أن يكون بنقد .
والثاني : أن يكون بنساء .
فإن كان بنقد لم يجز أن يأخذ عليه رهنا لأنه لا يجوز أن يخرج المبيع من يده إلا بعد استيفاء ثمنه ، فلا معنى لأخذ الرهن عليه : لأن ارتهان المبيع على ثمنه أولى من تسليمه وأخذ رهن بثمنه .
[ ص: 24 ] وإن
كان البيع بنساء فصحة البيع موقوفة على خمسة شروط :
فالشرط الأول : أن يكون في الثمن فضل ، وهو مثل أن يكون ثمن السلعة المبيعة نقدا بمائة فيبيعها نسيئة بمائة وخمسين ، فيكون حظ المولى عليه في النسيئة ما حصل له من فضل الربح ، وأما أن يبيعه نسيئة بالثمن الذي يساوي نقدا وهو مائة درهم ، فلا يجوز ، لأنه لا حظ في تأجيل حق يقدر على تعجيله .
الشرط الثاني : أن يكون المشتري ثقة موسرا فيجتمع فيه الوصفان : الثقة واليسار ، فإن لم يجتمعا فيه لم يجز ، لأنه إن كان معسرا فالمال تائه ، وإن كان خائنا فالجحود مخوف .
والشرط الثالث : أن يكون الأجل مقتصدا غير بعيد ولا متطاول : لأن في بعد الأجل وتطاول المدة تغريرا بالدين ، وإضاعة للحق .
واختلف أصحابنا في تحديد الأجل الذي لا يجوز له الزيادة عليه ، فحده بعضهم بالسنة وقال : إن كان الأجل زائدا على السنة لم يجز ، وامتنع سائر أصحابنا من تحديده بالسنة ، واعتبروا فيه عرف الناس وشاهد الحال : لأن ذلك قد يختلف باختلاف السلع ، وتباين العادات فيها ، فيجوز ما لم يخرج عن تعارف الناس في آجال تلك السلعة ، ومنعوا منه ما خرج عن تعارف الناس من آجال تلك السلعة .
والشرط الرابع : أن يأخذ منه رهنا ليكون وثيقة في الحق ، فلا يخرج من يده للمولى عليه مالا إلا أن يأخذ له عليه مالا .
واختلف أصحابنا
فيما يأخذ به رهنا من الثمن : فقال
أبو سعيد الإصطخري : يأخذ الرهن بالفاضل على ثمن النقد ، ويتعجل قبض ثمن السلعة نقدا كأنها إذا كانت تساوي نقدا مائة نقدا ونساء مائة وخمسين ، فعجل قبض المائة وأجل قبض الخمسين وأخذ منه رهنا بها ، ولا يجوز أن يؤجل جميع الثمن ويأخذ منه رهنا به : لأن فيه تغريرا بماله .
وقال
أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة وسائر أصحابنا : يأخذ منه رهنا بجميع الثمن ويكون جميعه مؤجلا لأن الولي لو منع من هذا حتى يقبض قيمة السلعة نقدا ويؤجل الباقي ويأخذ به رهنا لكان ذلك متعذرا بل لا أحسبه في الغالب ممكنا ، ولا أظن عاقلا يفعله إذا لم يكن مضطرا .
فإذا ثبت أنه يجوز أن يأخذ بجميع الثمن رهنا فيحتاج أن يكون الرهن يقيم بجميع الثمن ويزيد عليه ، فإن كان يعجز عن جميع الثمن لم يجز .
والشرط الخامس : أن يشهد على المشتري لتكون عليه بينة بذلك خوفا أن يصير إلى
[ ص: 25 ] حالة يحتاج فيها إلى إقامة البينة عليه ، لأن ذلك أبلغ في الاحتياط ، وأوكد في التوثق .
فهذه خمسة شروط على المولى أن يفعلها في مال الولي عليه ليصح البيع والرهن ، فإن أخل بشرط منها نظر ، فإن كان واحدا من الشروط الأربعة دون الشهادة بطل البيع والرهن ، وإن أخل بالشهادة فعلى وجهين :
أحدهما : يبطل البيع والرهن ، كالشروط الأربعة .
والثاني : لا يبطل ، وتكون الشهادة تأكيدا ، لأنها تراد للاستيثاق ، والرهن أقوى استيثاقا منها ، ولم يفتقر الولي إليها ، فهذا الحكم في بيع ماله وأخذ رهن به .
فصل : وأما
قرض ماله وأخذ رهن به ، فهذا على ضربين :
أحدهما : أن يكون الزمان آمنا ، والسلطان عادلا لا يخاف على المال التلف ، ولا يخشى عليه الهلاك ، فلا يجوز له أن يقرضه : لأن في إقراضه والحالة هذه عدم حظ وقلة نظر ، فإن أقرضه كان ضامنا .
والضرب الثاني : أن يكون الزمان مخوفا والسلطان جائرا يخاف على المال التلف ، ويخشى عليه الهلاك ففي جواز قرضه وجهان :
أحدهما : لا يجوز : لأن ترك المال وإن كان مخوفا فالقرض مخوف ، فلم يجز أن يتعجل أحد الخوفين .
والوجه الثاني : أن ذلك جائز وهو الصحيح : لأن قرضه أقل غررا وتركه أكثر خوفا ، فعلى هذا يعتبر في صحة هذا القرض ثلاثة شروط :
فالشرط الأول : أن يقرضه لرجل ثقة مليء بحيث لو أراد أن يودعه مال المولى إليه كان أهلا لذلك ، فإن أقرضه غير ثقة ، أو كان ثقة غير مليء لم يجز لما فيه من تغرير المال .
والشرط الثاني : أن يأخذ منه رهنا بذلك ليكون وثيقة بالدين الذي حصل عليه ، ويكون في الرهن وفاء بالمال ، فإن لم يأخذ منه رهنا أو أخذ منه رهنا ليس فيه وفاء لم يجز .
وقال بعض أصحابنا : يجوز ألا يأخذ على القرض رهنا بخلاف البيع : لأن القرض إنما يجوز عند الخوف على المال ، فلما جاز أن يخرج المال من يده خوفا عليه ، جاز ألا يأخذ رهنا تخوفا عليه ، وهذا غير صحيح ، لأن المال إن تلف كان من ضمان المولى عليه ، فجاز أن يخرجه من يده ، وليس الرهن إن تلف من ضمانه فلم يجز أن يخرجه من يده .
والشرط الثالث : أن يشهد عليه ليكون أبلغ في الاستيثاق منه ، فإن لم يشهد عليه ، فعلى الوجهين الماضيين .
[ ص: 26 ] فهذا الكلام في الارتهان له في دينه .
فصل : فأما
الرهن عليه من ماله فيما يثبت عليه من الدين فعلى ضربين :
أحدهما : أن يكون في دين متقدم .
والثاني : أن يكون في دين مستحدث .
فأما إن كان الدين متقدما فقد استقر عليه بغير رهن ، فلا يجوز للولي أن يستأنف إعطاء رهن من ماله في ذلك الدين ، لأنه يتطوع في ماله ، بإخراج ما لا يجب عليه .
وإن كان الدين مستحدثا عن عقد فشيئان : ابتياع واقتراض .
فأما الابتياع : فإن لم يكن محتاجا إلى شراء ما ابتاعه له كان باطلا ، ولم يجز أن يعطي عليه رهنا ، وإن كان محتاجا إلى شراء ما ابتاعه له أو كان فيه حظ له ، فإن كان واجدا لثمنه ابتاعه نقدا ولم يجز أن يبتاعه نساء لأمرين :
أحدهما : أن في ابتياعه بالنقد توفيرا عليه .
والثاني : أنه ربما
تلف المال وكان الثمن باقيا عليه ، فإذا ابتاعه بالنقد لم يجز أن يعطي بالثمن رهنا لأمرين :
أحدهما : أنه لا يجوز أن يرهن مع الثمن خوفا من تلف المال .
والثاني : أن الرهن أمانة ، فلم يؤمن تلف الرهن من ماله ، ويبقى عليه الثمن .
فهذا حكم ما ابتاعه له بالنقد وذلك يجوز في موضعين :
أحدهما : أن يكون محتاجا إليه كدار يسكنها ، أو جارية يستخدمها أو ثوب يلبسه أو طعام يأكله .
والثاني : أن يكون له فيه حظ وإن لم يكن محتاجا إليه ، كالأمتعة للتجارة ، والعقارات المستصلحة .
وأما أن يكون عادما للثمن فلا يجوز أن يبتاع له شيئا بالنسيئة إلا في موضع واحد ، وهو أن يكون محتاجا إلى ما لا يستغنى عنه من مأكول ، أو لباس ، أو ما في معناه مما لا يجد بدا منه .
فحينئذ يجوز أن يبتاع بالنسيئة إذا لم يجد في ماله ما يبتاعه له بالنقد ، فإن وجد من يبتاع منه بالنساء من غير أن يعطيه بذلك رهنا فعل ، ولم يجز أن يعطيه رهنا به ، فإن أعطاه رهنا به كان ضامنا له ، وإن لم يجد من يبيعه بالنساء إلا أن يأخذ منه رهنا جاز حينئذ أن يعطيه رهنا بقدر الدين فما دون ولا يجوز أن يعطيه أزيد قيمة من قدر الدين .
[ ص: 27 ] ويستحب أن يكون الرهن الذي يعطيه مما يقل الخوف عليه ، كالأرضين والعقارات دون العروض والسلع ، فإذا أعطاه بذلك رهنا اعتبرت حال البائع المرتهن ، فإن كان ثقة أمينا جاز أن يكون الرهن موضوعا في يده ، وإن كان غير أمين لم يجز أن يوضع الرهن على يديه ، خوفا أن يدعي هلاكه ويطالب بدينه ، ووضع الرهن على يدي عدل ثقة .
فصل : وأما
الاقتراض له فإن لم يكن به حاجة إليه ، لم يجز أن يقترض له فإن فعل كان ضمان القرض عليه ، وإن كان محتاجا إلى القرض إما للإنفاق عليه ، أو للإنفاق على ماله في عمارة ما خرب من ضياعه ومرماة ما استهدم من عقاره وليس ينقص شيء من ماله ، جاز حينئذ أن يقترض له حسب حاجته من غير زيادة .
فإن أمكن ألا يعطي على ذلك رهنا ، لم يجز أن يتطوع بإعطاء رهن ، وإن لم يمكن الاقتراض له إلا برهن جاز أن يعطي من ماله رهنا لا يزيد على قدر القرض ، ويوضع على يدي المقرض إن كان عدلا أو على يدي عدل إن لم يكن المقرض عدلا ، فإن وضعه على يد المقرض وليس بعدل كان الولي ضامنا له .
فصل : وأما
المكاتب في رهنه وارتهانه ، فإن أراد أن يرهن شيئا من ماله كان حكمه حكم ولي المحجور عليه إذا أراد أن يرهن شيئا من مال المولى عليه ، لا يختلف أصحابنا في ذلك ، فيكون الحكم فيه على ما مضى سواء .
فأما إذا أراد أن يرتهن شيئا من مال المولى عليه على دين له فإن كان دينا قد استقر في ذمة من هو عليه بغير رهن جاز : لأن في أخذ رهن عليه ، زيادة وثيقة فيه .
وإن أراد أن يرتهن في دين مستحدث ، فإن كان قرضا كان ولي المحجور عليه على ما مضى ، وإن كان بيعا فإن كان نقدا لم يجز وكان المبيع نفسه رهنا ، وإن كان نساء فهل يجوز أن يبيع بالنساء أم لا ؟ على وجهين :
أحدهما : يجوز ، فعلى هذا يكون كولي المحجور عليه في أخذ الرهن فيه .
والثاني : لا يجوز فعلى هذا لا يجوز أن يأخذ رهنا عليه لفساد البيع .
فصل : وأما
العبد المأذون له في التجارة فلا يجوز أن يرهن شيئا مما في يده إلا بإذن سيده .
فأما إذا أراد أن يأخذ رهنا على ثمن مبيع ، فإن كان الثمن نقدا لم يجز أن يخرجه من يده ويأخذ رهنا به .
وإن كان الثمن نساء لم يخل حال إذن السيد له من ثلاثة أقسام :
[ ص: 28 ] أحدها : أن يأذن له في بيع النقد لا غير ، فلا يجوز أن يبيع بالنساء ، وإن باع نساء كان باطلا سواء أخذ عليه رهنا أم لا .
والثاني : أن يأذن له في البيع نساء ، فيجوز للعبد أن يأخذ على الثمن رهنا سواء أذن له السيد في أخذه أم لا ما لم ينهه عنه ، ولأن أخذ الرهن فيه زيادة احتياط للسيد .
والثالث : أن يأذن له إذنا مطلقا من غير أن يشترط فيه النقد ، ولا يأذن له فيه بالنساء .
فهذا الإطلاق يقتضي بيع النقد ، لأن إطلاق الإذن يقتضي تعجيل العوض فعلى هذا : إن باع بالنساء لم يجز وكان باطلا ، سواء أخذ عليه رهنا أم لا .
وإذا أخذ العبد المأذون له رهنا فيما باعه على الوجه الذي بينا فقال العبد : قد فسخت الرهن لم ينفسخ ، ولأنه وثيقة لسيده ، فلم ينفسخ بقوله ، ولكن لو قال السيد : قد فسخته ، انفسخ لأنه وثيقة له ، إلا أن يكون على العبد ديون فلا ينفسخ الرهن بفسخ السيد لأن ديون المأذون له في التجارة متعلقة بما في يده ، فلم يكن للسيد أن يبطل حقوق أرباب الديون من الرهن ، والاستيثاق به .
فأما
المكاتب إذا أخذ رهنا على الوجه الجائز ، فقال السيد : قد فسخته ، لم ينفسخ ، لأن تصرف السيد في مال المكاتب غير نافذ ، وحاله معه كحاله مع الأجانب في المعاملات ، ألا ترى أنه يجوز أن يرتهن من سيده ، ويرهن عند سيده ؟ وليس كذلك العبد المأذون له في التجارة .