مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " ولو رهنه جارية قد وطئها قبل القبض فظهر بها حمل أقر به فهي خارجة من الرهن " .
قال
الماوردي : وصورتها في
رجل رهن جارية فظهر بها حمل ، فلا يخلو حال الراهن من أحد أمرين :
إما أن يدعيه أنه ولده أو لا يدعيه ، فإن ادعاه ولدا من وطء كان قبل الرهن ، فالولد لاحق به بدعواه سواء صدق المرتهن أو كذب : لأن المرتهن لا حق له في الولد .
وأما الأم فترجع إلى تصديق المرتهن وتكذيبه فيها لما ثبت له من الحق في رقبتها بعد الرهن .
وإذا كان كذلك لم يخل حاله من أحد أمرين : إما أن يصدقه على ذلك أو يكذبه ، فإن صدقه على ذلك صارت الجارية أم ولد للراهن ، وخرجت من الرهن لاتفاقهما على كونها أم ولد وقت العقد ، وإن كذبه المرتهن فللراهن حالان :
إحداهما : أن يكون قد أقر بوطئها قبل إقباضها للمرتهن ويعلم ذلك إما ببينة أو تصديق من المرتهن فيحكم بقوله وتخرج الجارية من الرهن وتصير أم ولد للراهن إذا جاءت به لزمان يمكن أن يكون عن وطء قبل القبض ، وهو أن تضعه لأربع سنين فما دون فأما إن وضعته لأكثر من أربع سنين فقول الراهن غير مقبول لعلمنا بكذبه إذ الحمل لا يكون لأكثر من أربع سنين ، فعلى هذا تكون الجارية رهنا لا تخرج من الرهن .
والحال الثانية : ألا يكون قد أقر بوطئها ولا حفظ ذلك عليه إلا بعد وضعها ، فهذا على ثلاثة أقسام :
أحدها : أن تضعه أقل من ستة أشهر من يوم القبض ، فالقول قول الراهن ، وتخرج
[ ص: 46 ] الجارية من الرهن وتصير أم ولد ، لأنه لما كان أقل الحمل ستة أشهر علم تقدم العلوق على القبض .
والقسم الثاني : أن تضعه لأكثر من أربع سنين من يوم القبض ، فالقول قول المرتهن ، والجارية على حالها لا تخرج من الرهن ، لأنه لما كان أكثر الحمل أربع سنين علم حدوث العلوق بعد القبض .
والقسم الثالث : أن تضعه لأكثر من ستة أشهر ودون أربع سنين فعلى قولين :
أحدهما : أن القول قول الراهن وتخرج من الرهن .
والقول الثاني : القول قول المرتهن ويصير الراهن كالواطئ بعد إقباض الرهن .
وهذان القولان مبنيان على اختلاف قولي
الشافعي في
الراهن إذا ادعى بعد إقباض الرهن أن عبده المرهون جنى قبل الرهن أو أنه أعتقه قبل الرهن وأنكر المرتهن فعلى قولين :
أحدهما : أن القول قول الراهن .
والثاني : أن القول قول المرتهن .
كذلك مسألتنا .
فإن قلنا : إن القول قول المرتهن فمع يمينه لا يختلف ، فإن نكل ردت اليمين على الراهن ، فإذا حلف خرجت من الرهن ، وإن نكل كانت رهنا بحالها ، فإن بدأت الجارية اليمين فعلى قولين مبنيين على اختلاف قوليه في غرماء المفلس إذا أجابوا إلى اليمين عند نكول المفلس فيما يستحقه بيمينه إن حلف .
وإذا قلنا إن القول قول الراهن ، نفى اليمين وجهان مخرجان من اختلاف قوليه في الراهن
إذا اعترف بجناية عبده قبل رهنه ، أو أقر بعتقه ، وقيل إن القول قول الراهن هل عليه اليمين أم لا ؟ على قولين : كذلك هاهنا وإذا كان القول قوله هل عليه اليمين أم لا ؟ على وجهين :
أحدهما : لا يمين عليه .
والثاني : عليه اليمين .
فإن حلف خرجت من الرهن ، وإن نكل ردت على المرتهن فهذا حكم الولد إذا ادعاه الراهن .
فصل : فأما
حكم الولد إذا لم يدعيه الراهن ولدا فعلى ضربين :
[ ص: 47 ] أحدهما : ألا يكون منه إقرار بوطئها وليس يدعي ولدها ، فإذا كان كذلك كان الولد مملوكا لا يلحق به ، والجارية في الرهن إلا أن الولد لا يدخل في الرهن ، لأن نماء الرهن عندنا خارج من الرهن .
والضرب الثاني : أن يكون قد أقر بوطئها قبل القبض ، فالولد لاحق به ، وهو حر إذا وضعته لزمان يمكن أن يكون منه ما لم يدع استبراءها فإن ادعى استبراءها كان القول قوله مع يمينه وكان الولد مملوكا لا يلحق به إلا أن تضعه لأقل من ستة أشهر من وقت الاستبراء فيلحق به .
فأما خروج الأم من الرهن فقد قال
أبو الفياض في شرحه : لا تخرج من الرهن لا يختلف القول فيه ، قال : لأن الولد لحق به لأجل الفراش لا بالاعتراف ، وهذا القول عندي غير صحيح ، لأن خرجها من الرهن إنما يكون إذا صارت أم ولد ، وهي تصير أم ولد بالفراش فوجب أن تخرج من الرهن إذا لحق ولدها بالاعتراف ، وإذا كان كذلك فإن وضعته لأقل من ستة أشهر خرجت من الراهن ، فإن وضعت لستة أشهر فصاعدا فعلى قولين .
فلو قالت الجارية : هذا الولد من زنا وليس من الراهن لم يقبل قولها لأنها قد صارت فراشا بالوطء السابق .
فصل : فإذا ثبت ما وصفنا من حكم الجارية إذا وضعته في خروجها من الرهن أو بقائها فيه مع لحوق ولدها بالراهن ، انتقل الكلام إلى حكمها إن خرجت من الرهن وإلى حكمها إن بقيت في الرهن ، فأما حكمها إن خرجت من الرهن في المواضع التي وصفنا .
فخروجها إنما يكون بعلوق قبل الرهن صارت به أم ولد فبطل الرهن وإذا كان كذلك فإن لم يكن الرهن مشروطا في بيع فقد بطل الرهن ولا خيار للمرتهن ، وإن كان مشروطا في بيع فلا يخلو حال الوطء الذي كان به الإحبال من أحد أمرين : إما أن يكون قبل عقد الرهن أو بعد عقد الرهن وقبل القبض .
فإن كان
الوطء بعد عقد الرهن وقبل القبض فالبيع جائز لا يختلف والرهن باطل .
وإنما كان البيع جائزا : لأن بطلان الرهن المشروط فيه كان بعد العقد فصار بطلانه كبطلان الرهن التالف بعد العقد وقبل القبض وذلك غير مبطل للبيع فكذلك هذا ، وإذا لم يبطل البيع فالبائع بالخيار بعقد الرهن الذي شرطه بين إمضاء البيع بلا رهن وبين فسخه .
وإن كان
الوطء قبل العقد فقد بان أنها كانت أم ولد حال العقد ، فلم يجز رهنها ولا العقد عليها ، وصار الثمن معقودا بشرط رهن باطل فكان البيع قولان :
[ ص: 48 ] أحدهما : باطل لبطلان الرهن المقترن به في العقد .
والقول الثاني : جائز لاستقلال البيع بحكمه وصحة تميزه عن غيره ، ولكن يكون البائع بالخيار بين إمضاء البيع بلا رهن وبين فسخه ، فهذا حكم الجارية إذا خرجت من الرهن ، وما يتعلق به من بطلان البيع وخيار المرتهن ، فأما حكمهما إذا بقيت في الرهن فلا يجوز بيعها إذا أمكن استيفاء الحق من الراهن ، فإذا استوفى الحق فيه خرجت من الرهن ، ثم هي أم ولد له لا يجوز له بيعها ولا رهنها وإن لم يمكن استيفاء الحق منه بيعت لما قد تعلق برقبتها من حق المرتهن ، فإن عاد الراهن فملكها بابتياع أو هبة فقد صارت أم ولد له محرم عليه بيعها ورهنها .