مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " ولو اغتصبها بعد القبض فوطئها فهي بحالها ، فإن افتضها فعليه ما نقصها يكون رهنا معها أو قصاصا من الحق ، فإن أحبلها ولم يكن له مال غيرها لم تبع ما كانت حاملا فإذا ولدت بيعت دون ولدها وعليه ما نقصتها الولادة ، وإن ماتت من ذلك فعليه قيمتها تكون رهنا أو قصاصا من الحق " .
قال
الماوردي : وهذا كما قال .
أما
إذا أراد الراهن أن يطأ الجارية المرهونة ، فإن كان ذلك قبل القبض لم يمنع من الوطء : لأن رهنها قبل القبض غير لازم ، فإن وطئها ولم تحبل لم يقدح ذلك في العقد المتقدم ، فإن أقبضها بذلك العقد صح الرهن ولزم .
وإن
أراد أن يطأ بعد القبض فللجارية المرهونة حالان :
إحداهما : أن تكون من ذوات الحيض والطهر اللاتي يخاف من وطئهن الحبل ، فلا يجوز للراهن وطؤها وإن كان أحق بمنافعها : لأن وطأها ذريعة إلى إحبالها وإحبالها مبطل لرهنها وما أدى إلى بطلان الرهن كان ممنوعا منه .
فإن قيل : فيجوز أن يطأها دون الفرج ، إذ ليس في ذلك إحبال لها قيل : لا يجوز ، لأن وطأها دون الفرج داع إلى وطئها في الفرج ، وما كان داعيا أمرا ممنوعا منه كان في نفسه ممنوعا منه كإمساك الخمر فما كان داعيا إلى تناولها كان ممنوعا منه كما كان ممنوعا من تناولها .
والحال الثانية : أن تكون ممن لا تحبل إما لصغر أو إياس ففي جواز وطء الراهن لها وجهان :
[ ص: 49 ] أحدهما وهو قول
أبي إسحاق المروزي : يجوز له وطؤها : لأن حبلها المفضي إلى إبطال رهنها مأمون ، فصار الوطء كالاستخدام .
والوجه الثاني وهو قول جمهور أصحابنا : لا يجوز وطؤها ، لأن الإياس مظنون وحبل المراهقة غير مأمون ، فصار كالشراب لما كان ما يسكر منه غير محدود ، ويختلف على حسب قوة الأشربة واختلاف الناس منع من قليله وكثيره .
فصل :
وإذا ثبت أنه ممنوع من وطئها على ما وصفنا ، فوطؤها على ضربين :
أحدهما : أن يطأ دون الفرج فلا حكم له ، وهي بحالها رهن .
والضرب الثاني : أن يطأ في الفرج فلا حد عليه ولا تعزير ، لأنها ملكه ثم هو على ضربين :
أحدهما : أن يحبلها .
والثاني : ألا يحبلها .
فإن لم يحبلها فلها حالان :
أحدهما : أن تكون بكرا .
والثاني : أن تكون ثيبا .
فإن كانت ثيبا فلا شيء على الراهن الواطئ من مهر ولا غيره : لأن المهر من كسبها وكسبها للراهن غير داخل في الرهن ، ألا ترى أن أجنبيا لو وطئها فلزمه المهر كان ملكا للراهن غير داخل في الرهن ، فكذلك إذا كان الواطئ هو الراهن لم تلزمه غرامة المهر في الرهن .
وإن كانت بكرا فعليه أرش بكارتها وما نقصها الافتضاض بوطئه إياها ليكون رهنا معها أو قصاصا من الحق وإنما لزمه أرش بكارتها ولم يلزمه مهرها : لأن أرش البكارة بدل من إتلاف عضو منها وذلك داخل في الرهن غير خارج منه كما لو قطع يدها ، ألا ترى أن أجنبيا لو أزال بكارتها فلزمه أرشها كان الأرش داخلا في الرهن ، فكذلك إذا كان مزيل البكارة هو الراهن لزمه غرامة الأرش في الرهن ، فهذا حكم وطئه إذا لم تحبل .
فأما إذا أحبلها بوطئه فالكلام في المهر وأرش البكارة على ما مضى من وجوب الأرش وسقوط المهر ، ثم هي قبل وضع حملها رهن بحالها لجواز أن يكون الحمل غلطا أو ريحا ، ولا يجوز بيعها في الرهن قبل وضعها لجواز أن يكون الحمل صحيحا .
فإذا وضعت حملها فالولد حر لاحق بالراهن لأنه من أمته ، وليس عليه غرم قيمته لأنه لو كان مملوكا لكان غير داخل في الرهن .
[ ص: 50 ] فأما الأم فهي له
أم ولد ، وهل تخرج من الرهن أم لا ؟ قال
الشافعي رضي الله عنه في كتاب الرهن الصغير المنسوب إلى قوله في القديم : إن كان معسرا لم تخرج من الرهن فإن كان موسرا فعلى قولين ، وقال في كتاب الرهن الكبير المنسوب إلى قوله في الجديد : أنه إن كان موسرا خرجت من الرهن وطولب بقيمتها ، وتكون رهنا أو قصاصا من الحق ، وإن كان معسرا فعلى قولين .
فحصل في خروجها من الرهن ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها تخرج من الرهن في اليسار والإعسار .
والقول الثاني : أنها لا تخرج من الرهن في اليسار والإعسار .
والقول الثالث : تخرج من الرهن في اليسار ولا تخرج منه في الإعسار .
وإذا قلنا : تخرج من الرهن في اليسار والإعسار فهو قول
أبي حنيفة ووجهه ثلاثة أشياء :
أحدها : هو أن الرهن محتبس في يد المرتهن بدينه كما أن المبيع محتبس في يد البائع بثمنه ، فلما كان حبس الجارية في يد البائع بالثمن لا يمنع من أن تصير بوطء المشتري أم ولد يحرم بيعها ، كذلك حبس الجارية في يد المرتهن بدينه لا يمنع من أن تصير بوطء الراهن أم ولد يحرم بيعها .
والثاني : هو أن حق المرتهن يتعلق بالعين والذمة ، وحكم الإحبال متعلق بالعين دون الذمة ، والحقان إذا ترادفا وكان أحدهما متعلقا بالعين والذمة ، والآخر متعلقا بالعين دون الذمة ، كان ما تعلق بالعين دون الذمة متقدما على ما تعلق بالعين والذمة ، كالجناية إذا حدثت من الرهن كانت الجناية متقدمة لتعلقها بالدين .
والثالث : هو حكم الإحبال أقوى من الرهن من وجهين :
أحدهما : أن حكم الإحبال يقع في الملك ويسري إلى غير الملك ، والرهن لا يصح إلا في ملك .
والثاني : أن حكم الإحبال يستوي فيه الرشيد وغير الرشيد ، والرهن لا يصح إلا من رشيد ، فإذا كان الإحبال أقوى من الرهن في هذين الوجهين وزيادة غلب حكم الإحبال على الرهن . . فهذا توجيه هذا القول .
وإذا قلنا : إنها لا تخرج من الرهن في اليسار والإعسار وهو قول
داود فوجهه ثلاثة أشياء :
[ ص: 51 ] أحدها : هو أن حق المرتهن يتعلق برقبة الجارية المرهونة كما أن حق المجني عليه يتعلق برقبة الجانية ، فلما لم يكن الإحبال مانعا من بيعها في الجناية لم يكن الإحبال مانعا من بيعها في الرهن .
والثاني : هو أن نفوذ الإحبال مبطل لوثيقة المرتهن من الرهن كما أن البيع مبطل لوثيقة المرتهن من الرهن ، فلما كان بيع الراهن غير صحيح لما فيه من إبطال وثيقة المرتهن ، وجب أن يكون إحبال الراهن غير نافذ لما فيه من إبطال وثيقة المرتهن .
والثالث : هو أن إثبات الرهن أولى من نفوذ الإحبال من وجهين :
أحدهما : أن الرهن أسبق من الإحبال فكان أولى .
والثاني : أن عقد الرهن تم باختيارهما ، والإحبال حادث باختيار أحدهما فكان ما تم باختيارهما أولى ، وإذا كان إثبات الرهن أولى من هذين الوجهين لم يكن للإحبال تأثير فيه فهذا توجيه هذا القول .
وإذا قلنا : إنها تخرج من الرهن في اليسار ولا تخرج منه في الإعسار فهو قول
مالك ووجهه ثلاثة أشياء :
أحدها : هو أن الراهن ممنوع من
التصرف في الرهن كما أن الشريك ممنوع من التصرف في حصة الشريك ، فلما كان إحبال الشريك نافذا في حصة شريكه في اليسار دون الإعسار وجب أن يكون إحبال الراهن نافذا في الرهن في اليسار دون الإعسار .
والثاني : هو أن الحقين إذا أمكن استيفاؤهما لم يجز إسقاط أحدهما وفي اليسار يمكن استيفاؤهما وفي الإعسار لا يمكن تقدم الرهن ، لأنه أسبقهما .
والثالث : هو أن الإحبال تصرف في عين تعلق بها استيفاء حق الغير منها ، فوجب أن يعتبر اليسار في إمضاء تصرفه ، والإعسار في رد تصرفه لأمرين :
أحدهما : أن التصرف موجب للغرم والموسر قادر على الغرم دون المعسر .
والثاني : أن رد التصرف حجر ، والمحجور عليه بحق الدين هو المعسر دون الموسر فهذا توجيه هذا القول .
فصل : فإذا تقرر توجيه الأقاويل انتقل الكلام إلى إبانة
حكم الجارية إذا قلنا بخروجها من الرهن ، وإلى حكمها إذا قلنا ببقائها في الرهن .
فأما إذا قلنا : إنها قد خرجت من الرهن فقد صارت للراهن أم ولد بنفس العلوق لا
[ ص: 52 ] يختلف ، وليس كما غلط بعض أصحابنا المتأخرين من
البغداديين ، فخرج ذلك على ثلاثة أقاويل :
أحدها : تصير أم ولد بنفس العلوق .
والثاني : بدفع القيمة .
والثالث : موقوف اعتبارا بوطء أحد الشريكين .
وهذا خطأ من قائله ، لأن وطء الراهن صادف ملكا ، وإنما يدفع القيمة لا غرما للمتلف ولكن على وجه الاستيثاق للمرتهن فصارت بنفس العلوق أم ولد .
ولم يجز أن تصير بدفع القيمة أم ولد ألا ترى أنه لو قضى الدين ولم يدفع القيمة كانت له أم ولد ، وليس كذلك حصة أحد الشريكين .
فإذا ثبت أنها تصير أم ولد بنفس العلوق فعليه دفع قيمتها إلى المرتهن إن كان موسرا بها ، سواء جعلنا اليسار شرطا في خروجها من الرهن أم لا ، لأنه لما غرم أرش نقصها بجنايته مع بقائها في الرهن ، فأولى أن يغرم جميع قيمتها بخروجها من الرهن ، فإن كان معسرا بها في الحال ثم أيسر فيما بعد غرم قيمتها إذا أيسر ، واعتبار القيمة وقت العلوق لا يختلف فيه المذهب ، لأنه بالعلوق قد استهلك ، وإذا كان كذلك ، فالراهن بالخيار بين أن يجعل القيمة رهنا مكانها أو تكون قصاصا من الحق فإن جعلها رهنا ، فعليه أن يدفع جميع قيمتها وإن كانت أكثر من الحق لأنه يصير رهنا بدلا عن الجارية المرهونة .
وإذا أراد أن يجعلها قصاصا من الحق فعليه أن يدفع أقل الأمرين من قيمتها أو ما عليه من الحق ، لأنه إن كانت قيمتها أكثر من الحق فليس للمرتهن إلا حقه ، والزيادة للراهن ، وإن كانت قيمتها أقل من الحق فقد عجل بعض ما عليه ، ومن عجل بعض ما عليه لم يلزمه تعجيل باقيه فهذا حكمها إذا خرجت من الرهن .
فصل : فإذا تقرر توجيه الأقاويل فأما
إذا قلنا : إنها لا تخرج من الرهن فلا يجوز أن تباع قبل وضعها ، لأنها حامل بحر فإذا وضعت لم يخل حالها من ثلاثة أقسام :
إما أن تموت بالوضع ، أو لا تموت لكن تنقص قيمتها ، أو لا تموت ولا تنقص قيمتها بالوضع .
فأما القسم الأول وهو أن تموت بالوضع ، فعليه غرم قيمتها لأن موتها بسبب منه كما لو قتلها فإن قيل أليس لو استكره أمة على الوطء فأحبلها فماتت من الولادة لم يكن يلزمه قيمتها فهلا كانت الجارية المرهونة إذا ماتت من وضعها بإحباله لا يلزمه قيمتها ؟
[ ص: 53 ] قلنا : للشافعي فيه قولان :
أحدهما : أن عليه قيمتها إن كانت أمة وديتها إن كانت حرة ، فعلى هذا لا فرق بين المرهونة وغيرها .
والقول الثاني : أنه لا شيء عليه في الحرة ولا في الأمة من دية ولا قيمة ، فعلى هذا الفرق بين الراهن حيث غرم القيمة وبين غيره : أن الراهن يلحق به الولد الذي هو سبب موتها ، وذلك من جهته فلزمه غرم قيمتها والمكره على الزنا لا يلحق به الولد ، فلم يكن سبب موتها من جهته ، فلم يلزم غرم قيمتها فإذا ثبت أن عليه غرم قيمتها فقد اختلف أصحابنا في
اعتبار وقت القيمة على ثلاثة أوجه :
أحدها : وقت العلوق : لأن بالوطء كان التعدي .
والثاني : وقت الموت : لأن به استقر التلف وهو قول ابن
أبي هريرة .
والثالث : أكثر ما كانت قيمة من وقت الوطء إلى وقت الموت كالغصب .
فإذا غرم القيمة كان بالخيارين أن تكون رهنا مكانها سواء كانت أكثر من الحق أو أقل ، وبين أن تكون قصاصا إن كانت أقل من الحق أو مثله وإن كانت أكثر من الحق لم يلزمه دفع الزيادة على الحق .
وأما القسم الثاني وهو ألا تموت لكن تنقص قيمتها بالوضع : فعليه غرم ما نقصتها الولادة يكون رهنا معها أو قصاصا من الحق فإن أحب أن يكون رهنا معها كان كذلك سواء كان فيها وفاء بالحق أم لا .
وإن أحب أن يكون قصاصا من الحق كان قصاصا ، فإن كان فيه وفاء للدين خرجت الجارية من الرهن وصارت أم ولد ، وإن لم يكن فيه وفاء للدين وبقي منه شيء وإن قل كانت الجارية بحالها رهنا .
وأما القسم الثالث وهو أن تكون على حالها لم تمت ولم تنقص بالوضع : فلا شيء على الراهن ، ثم لا يخلو حال الحق من أحد أمرين :
إما أن يكون حالا ، أو مؤجلا : فإن كان مؤجلا لم يجز أن تباع قبل الأجل ، وإن كان حالا لم يجز أن تباع قبل استغناء الولد عن ارتضاع اللبأ فإذا ارتفع اللبأ ووجدت مرضعة ترضعه تمام الرضاع جاز حينئذ أن تباع في الدين ويفرق بينها وبين الولد في البيع ، فإن قيل : أليس لو كان الولد مملوكا لم يجز أن يفرق بينها وبين الولد في البيع حتى يستكمل سبعا ، فهلا قلتم كذلك في الولد إذا كان حرا ؟ قيل : الفرق بينهما من وجهين :
[ ص: 54 ] أحدهما : أن الولد إذا كان مملوكا أمكن أن تباع معه ، فلم يجز أن تباع دونه وليس كذلك مع الحر .
والثاني : أن الولد إذا كان مملوكا فحضانته للأم فإذا فرق بينهما سقطت الحضانة وليس كذلك الحر : لأن حضانته للأب ، فلم يكن في التفريق بينهما إسقاط للحضانة .
فصل :
فإذا ثبت جواز بيعها والتفريق بينها وبين ولدها لم يخل حال الدين من ثلاثة أقسام :
إما أن يكون مثل قيمتها من غير زيادة ولا نقص ، أو يكون أكثر من قيمتها ، أو يكون أقل من قيمتها ، فإن كان الدين مثل قيمتها وتعذر استيفاء الدين من راهنها بيعت وصرف ثمنها في الدين وكذلك إن كان الدين أكثر من قيمتها بيعت وصرف ثمنها في الدين وكان باقي الدين في ذمة الراهن بغير رهن ، فإن كان الدين أقل من قيمتها مثل أن تكون قيمتها ألفا والدين خمسمائة فالواجب أن يباع منها بقدر الدين وهو النصف من غير زيادة عليه .
قال
أبو إسحاق المروزي إلا أن لا يشترى النصف بحال فتباع جميعها ويصير الدين كأنه محيط بقيمتها ثم يقضي منه الدين ، ويرد الباقي على الراهن .
فأما إذا أمكن بيع البعض منها بقدر الدين ، فالواجب أن يباع ذلك القدر من غير زيادة ، فلو كان له غرماء يستحقون بقية ثمنها لم يجز أن يباع الباقي منها : لأن ذلك القدر إنما بيع في دين المرتهن للرهن المتعلق به وليس كذلك باقي غرمائه ، فإذا بيع منها بقدر دين المرتهن وهو النصف كان النصف الباقي أم ولد لا يجوز للراهن بيعه وكان هو وشريكه المشتري ممنوعين من الوطء ، فإن مات الراهن عتقت حصته ولا تقوم عليه حصة شريكه ، لأن التقويم بعد الموت لا يجب ، وتكون حصة شريكه باقية على الرق ، وإنما يعتق على الرهن قدر حصته .
وقال
الشافعي : وتعتق بموته في قول من يعتقها فتوهم
المزني أن
الشافعي توقف في عتق أمهات الأولاد فقال : قد قطع
الشافعي بعتقها في كتاب عتق أمهات الأولاد .
فيقال
للمزني : الأمر على ما ذكرت ، ومذهب
الشافعي لم يختلف في
عتق أمهات الأولاد بالموت ، وأن بيعها لا يجوز في الحياة وإنما قال : وتعتق بموته في قول من يعتقها يعني من الصحابة : لأن فيهم من يخالف ، فقال : يجوز بيعها ولا تعتق بالموت وبه قال
أهل الظاهر .
ومنهم من قال : لا يجوز بيعها وتعتق بالموت .
[ ص: 55 ] وبه قال سائر الفقهاء ليعلم أن في المسألة خلافا وليس إجماعا كما يقول
مالك : إنها إجماع ، بناء على أصله : أن من خالف من الصحابة خارج
المدينة لم يكن خلافا .