مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " ولو كانت دارا فبنيت أو أرضا فغرست خيرته بين أن يعطى العمارة ويكون ذلك له أو يكون له الأرض والعمارة تباع للغرماء إلا أن يشاء المفلس والغرماء أن يقلعوا ويضمنوا ما نقص القلع فيكون لهم ( وقال في موضع آخر ) إن لم يأخذ العمارة وأبى الغرماء أن يقلعوها لم يكن له إلا الثمن يخاض به الغرماء ، ( قال
المزني ) قلت أنا : الأول عندي بقوله أشبه وأولى ؛ لأنه يجعل الثوب إذا صبغ لبائعه يكون به شريكا ، وكذلك الأرض تغرس لبائعها يكون بها شريكا " .
قال
الماوردي : صورة هذه المسألة في
رجل باع أرضا فبنى فيها المشتري بناء وغرس فيها غراسا ثم أفلس والبناء والغراس قائم في الأرض فللمفلس ولغرمائه حالان :
حال يتفقوا على قلع الغراس والبناء فلهم ذلك وللبائع أن يرجع بأرضه بيضاء ، فإن كان قلع الغراس والبناء بعد رجوع البائع بأرضه ، وكان لقلع الغراس والبناء نقص قد أضر بالأرض ، فإن أمكن إزالة النقص بتسوية للأرض وتعديلها فعليهم تسويتها وإزالة النقص الداخل عليها ، وإن لم يمكن إزالة النقص بتسويتها فعليهم غرم ما نقصت الأرض يرجع لكون البائع مقدم على جميع الغرماء لأنه حق ثبت لاستصلاح ماله بعد وقوع الحجر عليه ، وإن كان
قلع الغراس والبناء قبل رجوع البائع بأرضه فهل على المشتري المفلس غرم نقصه ؟ على وجهين - من اختلاف
[ ص: 291 ] الوجهين فيما حدث بالمبيع من نقص بفعل المشتري هل يجري مجرى حادث من سماء أو مجرى جناية أجنبي - أحد الوجهين لا غرم عليه إذا قيل إنه يجري مجرى حادث من سماء .
والثاني : عليه الغرم إذا قيل إنه يجري مجرى جناية آدمي ، فعلى هذا يكون البائع بقدر غرامة النقص أسوة الغرماء ولا يتقدم به عليهم لأنه حق ثبت على استهلاك : والحال الثانية من أحوال المفلس وغرمائه أن يمتنعوا من قلع الغراس والبناء فلا يجبروا على قلعه لقوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923262ليس لعرق ظالم حق ، فدل على غير الظالم لعرقه حق ، والمشتري حين بنى وغرس لم يكن ظالما ، وإذا لم يجبر على قلعه لم يخل حال البائع من أحد أمرين : إما أن يبذل لهم قيمة الغراس والبناء قائما أو يمتنع ، فإن بذل لهم قيمة الغراس والبناء قائما فللبائع - إذا بذل قيمة الغراس والبناء قائما - أن يرجع بأرشه ويجبر المفلس والغرماء على أخذ قيمة ذلك قائما أو قلعه ، ولا يجوز أن يمتنع البائع من الرجوع بأرضه ، وإن امتنع البائع من بذل قيمة الغراس والبناء قائما وامتنع المفلس وغرماؤه من قلعهما معا فقد قال
الشافعي رضي الله عنه في الأم ، ونقله
المزني عنه في هذا الموضع ما يدل على أن للبائع أن يرجع بأرضه ، وقال بعده ما يدل على أنه يكون أسوة للغرماء ولا يرجع بأرضه فاختلف أصحابنا ، فكان
أبو إسحاق المروزي وطائفة يخرجون ذلك على قولين :
أحدهما وبه قال
المزني : أن للبائع الرجوع بأرضه ولا يكون ما حصل فيها من ملك المشتري مانعا من الرجوع بها ، ألا ترى أنه لو اشترى ثوبا فصبغه ثم أفلس كان للبائع أن يرجع بالثوب وإن كان مصبوغا بصبغ المشتري ويكون الصبغ للمشتري ، والأرض المغروسة أولى أن يكون للبائع الرجوع بها وإن كان الغراس للمشتري .
والقول الثاني : أنها للبائع يضرب مع الغرماء بالثمن ولا حق له في الرجوع بالأرض ؛ لأن في الرجوع بالأرض مع بقاء البناء والغراس فيها ضررا لاحقا بمالك الغراس والبناء ؛ لأن حيطان البناء وسقوفه تزول منافعها إذا لم يمكن التصرف في الأرض والغراس فلا يمكن الاستطراق إليه إلا بالتصرف في الأرض ، فلم يجز أن يزيل عن البائع ضررا باسترجاع الأرض بإدخال ضرر على المفلس والغرماء في البناء والغراس ، كما أن المشتري إذا بنى وغرس لم يكن للشفيع أن يأخذ الشقص إلا بقيمة البناء والغراس ؛ لأنه لا يجوز أن يزيل ضررا عن الشفيع بإدخال ضرر على المشتري ، ومن هذا الوجه فارق الثوب المصبوغ ، لأن البائع إذا رجع بالثوب لم يدخل على المفلس ضرر في الصبغ ، لأن الثوب المصبوغ يستودع أمينا حتى
[ ص: 292 ] يباع لهما فلا يدخل ضررا عليهما ، وكان أبو الفياض البصري وأكثر البصريين يخرجون ذلك على اختلاف حالين : فالموضع الذي قال فيه بأن للبائع أن يرجع بأرضه إذا كان البناء والغراس يسيرا أو أكثر منافع الأرض إذا استرجعت باقيا لبقاء المقصود منها ، والموضع الذي قال إنه يضرب مع الغرماء بالثمن ولا يرجع بالأرض إذا كان البناء والغراس كثيرا أو أكثر منافع الأرض مشغولا لفوات المقصود منها وزوال الانتفاع بها فتصير مستهلكة .