فصل : فأما السن فقد حكي عن
مالك أنه لا يتعلق به البلوغ بحال ، وإنما يكون البلوغ بالاحتلام وغلظ الصوت وانشقاق الغضروف ؛ لأن البلوغ يختلف بحسب اختلاف الحلق وتباين الناس كاختلاف أعمارهم ، فلم يجز أن يجعل مع اختلافه حدا .
وذهب
الشافعي وأبو حنيفة وسائر الفقهاء إلى أن البلوغ يكون بالسن ، وإن اختلفوا فيما يكون به بالغا من السن ، وفيما نذكره من الدليل على الاختلاف في قدره دليل على ثبوت أصله .
واختلفوا في
قدر البلوغ بالسن ، فذهب
الشافعي رضي الله عنه إلى أن البلوغ يكون بخمس عشرة سنة في الغلام والجارية .
وقال
أبو حنيفة : يكون بلوغ الجارية بسبع عشرة سنة ، وبلوغ الغلام بثماني عشرة سنة استدلالا بأن نص الكتاب والسنة يوجبان
استصحاب الصغر إلى الاحتلام وتعليق التكليف [ ص: 345 ] قال الله تعالى :
وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا [ النور : 59 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=922334رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم .
ثم كان هذا السن مجمعا على البلوغ به فاقتضى أن يكون ما دونه مردودا بظاهر الثمن ، والدلالة على ما قلنا حديث
ابن عمر ، رواية
ابن جريج ، عن
عبيد الله ، عن
نافع ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=923276عن ابن عمر قال : عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني ولم يرني بلغت ، وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة ، فأجازني في المقاتلة .
وقد روي عنه أيضا أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923277عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام بدر وأنا ابن ثلاث عشرة سنة فردني ، وعرضت عليه عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني ولم يرني بلغت ، وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني في المقاتلة ، فالدلالة من هذين الحديثين من وجهين :
أحدهما : أنه لما رده سنة أربع عشرة لأنه لم يبلغ علم أن إجازته سنة خمس عشرة : لأنه قد بلغ ؛ لأنه لا يجوز أن يرده لمعنى ثم يجيزه مع وجود ذلك المعنى .
والثاني : أنه أجازه سنة خمس عشرة في المقاتلة ، وهم البالغون ، وبذلك كتب
عمر بن عبد العزيز لأمراء الأجناد ، أن هذا فرق ما بين الذرية والمقاتلة ، فإن قيل : فيجوز أن يكون
ابن عمر بلغ خمس عشرة سنة بالاحتلام لا بالسن ، قيل : هذا خطأ ؛ لأن الحكم المنقول مع السبب يقتضي أن يكون محمولا على ذلك السبب ، كما نقل أن
ماعزا زنا فرجم ، والسبب المنقول هو السن ، فعلم أن البلوغ محمول عليه .
فإن قيل : يحتمل أن الرد سنة أربع عشرة للضعف ، والإجازة سنة خمس عشرة للقوة ، كما روي
عن سمرة بن جندب أنه قال : " عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فردني وأجاز غلاما ، فقلت رددتني وأجزته ولو صارعته لصرعته ، فقال : صارعه ، فصارعته فصرعته فأجازني " ، فدل على أن الرد والإجازة إنما يتعلق بالضعف والقوة .
قيل : قد يجوز أن يكون الرد في حديث
سمرة للضعف والإجازة للقوة حملا له على سببه ، وفي حديث
ابن عمر للسن حملا على سببه .
فإن قيل لحديث
ابن عمر لا يصح لأنه نقل أن بين أحد والخندق سنة ، وقد روى
[ ص: 346 ] الواقدي وأهل السير أن بين
أحد والخندق سنتين ، قلنا : نقل
ابن عمر أثبت من نقل
الواقدي ، وقد تابعه
محمد بن إسحاق ، على أنه يجوز أن يكون عرض عليه عام
أحد وهو في أول سنة أربع عشرة ، وعرض عليه عام
الخندق وهو في آخر سنة خمس عشرة فصار بينهما سنتان ، فإن قيل : إن
ابن عمر لا يعرف سن نفسه لأنه لم ير قط ولادته فلم يصح إخباره به ، قلنا لو كان هذا صحيحا حتى لا يجوز الإخبار به لما جاز له الإخبار بنسبه ، ولما جاز بأن يقول : أنا
ابن عمر ؛ لأنه لم ير ولادة نفسه على فراش
عمر .
فإن قيل : فقد يعلم بنسبه بالاستعاضة ، قيل : وقد يعلم بسنه بالاستعاضة .
ومن الدليل على ما ذكرنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال :
إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه وأخذت منه الحدود ، وهذا إن ثبت نص غير محتمل ، وبما ذكرنا يفسد وجه استدلالهم .
ومن الدليل على فساد ما قالوا من
الفرق بين بلوغ الغلام والجارية ، وأن للسن معنى يثبت به البلوغ فوجب أن يستويا فيه كالاحتلام .
ولأن الضعف معنى يوجب الحجر فوجب أن يستويا فيه كالجنون ، ولأن ما يكمل به تصرفهما يجب أن يستويا فيه ولا يتفاضلا كالرشد ، ولأنه حال لو أسلم فيها صح إسلامه ، أو تصرف فيها ببيع أو شراء صح تصرفه ، فوجب أن يحكم فيها ببلوغه كالثماني عشرة .
فإذا ثبت أن البلوغ يكون بخمس عشرة سنة فإنما يعني السنين القمرية التي كل سنة منها اثنا عشر شهرا هلالا .
وابتداؤها من حين أن ينفصل المولود من بطن أمه ، وكذا لا ميراث له حتى ينفصل جميعه حيا من الرحم .
وقال
أبو يوسف ،
ومحمد ،
وزفر ،
والحسن بن صالح : إذا خرج أكثر المولود من الرحم فحينئذ تعتبر أول سنة .
وإذا علمت حياته عند خروج أكثره ثم خرج باقيه ميتا ورث .
وما قاله
الشافعي أولى ؛ لأن أصول الشرع مقررة على أن كل حال ثبت لها حكم لم يزل حكمها إلا بالانفصال عنها كالإيمان .
ولأن وضع الحمل لما أوجب انقضاء العدة لم تنقض إلا بعد انفصال جميعه صار في حكم الحمل ، فلم يجز أن يجري عليه حكم الولادة لتنافيهما .
[ ص: 347 ]