الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو أشرع جناحا على طريق نافذة فصالحه السلطان أو رجل على ذلك لم يجز ، ونظر فإن كان لا يضر ترك ، وإن ضر قطع " .

قال الماوردي : صورة هذه المسألة في رجل أشرع من داره جناحا أو ساباطا على طريق فلا يخلو حال الطريق من أحد أمرين :

إما أن تكون نافذة أو غير نافذة .

فإن كانت نافذة فلا يخلو حال الجناح من أن يكون مضرا بالمارة أو غير مضر .

فإن كان الجناح الخارج غير مضر بالمارة والمجتازين ترك على حاله ولم يكن لأحد من المسلمين أن يعترض عليه فيه ، لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مر بدار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقطر عليه من ميزابه ماء فأمر بقلعه ، فخرج إليه العباس رضي الله عنه وقال : قلعت ميزابا نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، فقال عمر : والله لا يعاد إلا على ظهري ، فركب العباس ظهره وأعاد الميزاب في موضعه .

ولأنه لم يزل الناس قديما يفعلونه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده من خلفائه يشاهدونه فلا ينكرونه ، فدل على أنه شرع مستقر وإجماع منعقد .

ولأنه لما جاز للناس الارتفاق بالطرق والمقاعد منها جاز لهم الارتفاق بهوائها .

[ ص: 376 ] فإن قيل : أليس الإنسان ممنوع من وضع سارية في الطريق وبناء دكة ، وإن كان ذلك مرفقا والعمل به جاريا فكذلك الجناح .

قيل : السارية والدكة مضر بالناس لما فيه من تضايق الطريق عليهم .

ولأنهم ربما ازدحموا فأضر بهم أو سقط عليه ضرير لا يبصر فتأذى ، وليس كذلك الجناح في الهواء ، فأما إن كان الجناح مضرا بالمارة والمجتازين قلع ولم يقر ، وأمر الإمام بهدمه وإن لم يختصم الناس إليه فيه .

وقال أبو حنيفة : إن خوصم فيه إلى الإمام قلعه ، وإن لم يخاصم تركه ، لأن الإمام حاكم وليس بخصم ، والحاكم لا يحكم إلا لطالب ، وهذا الذي قاله خطأ لأمرين :

أحدهما : أن الإمام مندوب لإزالة المنكر والنيابة عن كافة المسلمين في أبواب المصالح فوجب أن ينفرد بإزالة المنكر .

والثاني : أن ما يجوز إقراره لا يفتقر إلى الرضا به في الترك ، وكذا ما لا يجوز إقراره لا يفتقر إلى إنكاره في القلع ، وليس هذا من طريق الحكم فلا يحكم إلا لخصم ؛ لأن الخصم فيه لا يتعين ، فإنما كافة الناس فيه شرع واحد .

فإذا وجب قلعه فبذل صاحبه مالا صلحا على تركه لم يجز لأمرين :

أحدهما : أنه صلح على إقرار منكر .

والثاني : أنه صلح على الهوى .

فأما حد ما يضر مما لا يضر فمعتبر بالعرف والعادة ومختلف باختلاف البلاد .

وقال أبو عبيد بن حربويه من أصحابنا : حد الضرر أن لا يمكن الفارس أن يجتاز تحته برمح قائم ، وحكي نحوه عن شريح .

وهذا التحديد ليس بصحيح لأن الرماح مختلفة في الطول والقصر .

ولأن هذا يؤدي إلى أن لا يخرج أحد جناحا ، لأن الرمح قد يعلو على المنازل في أكثر البلاد .

ولأنه لا مضرة على صاحب الرمح في الاجتياز برمحه مائلا .

وإذا كان كذلك وجب أن يعتبر ذلك بحسب البلاد ، فإن كان البلد قد تجتاز في طرقه الجمال التي عليها الكبائس والعماريات وذلك أعلى ما يجتاز في الطرقات فحد الإضرار أن لا يمكن اجتياز الكبائس والعماريات تحته ، وإن أمكن اجتيازها فليس بمضر .

[ ص: 377 ] فإن كان البلد مما لم تجر عادة الكبائس والعماريات أن تجتاز به وجرت عادة الجمال المحملة أن تجتاز فيه فحد الإضرار فيها أن لا يمكن اجتياز الجمال المحملة تحته ، وإن أمكن فليس بمضر .

وإن لم تجر عادة البلد باجتياز الجمال المحملة فيه وجرت عادة الفرسان بالاجتياز فيه فحد الإضرار فيه أن لا يمكن اجتياز الفارس تحته ، فإن أمكن فليس بمضر .

وإن لم تجر عادة البلد باجتياز الفرسان فيه فحد الإضرار فيه أن لا يمكن اجتياز الرجل التام إذا كان على رأسه حمولة مستعلية ، فإذا ثبت ما وصفنا فحد الإضرار معتبر بما ذكرنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية