الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال المزني : " ولو ضمن عن رجل بأمره ألف درهم عليه لرجل فدفعها بمحضره ثم أنكر الطالب أن يكون قبض شيئا حلف وبرئ وقضى على الذي عليه الدين بدفع الألف إلى الطالب ويدفع ألفا إلى الضامن لأنه دفعها بأمره وصارت له دينا عليه فلا يذهب حقه ظلم الطالب له ولو أن الطالب طلب الضامن فقال لم تدفع إلي شيئا قضي عليه بدفعها ثانية ولم يرجع على الآمر إلا بالألف التي ضمنها عنه لأنه يقر أن الثانية ظلم من الطالب له فلا يرجع على غير من ظلمه " .

قال الماوردي : وصورتها في رجل ضمن عن رجل ألفا بأمره ودفعها إلى المضمون له وأنكرها فلا يخلو حال الضامن في دفعه الألف إلى الطالب من أحد أمرين : إما أن يشهد عليه بدفعها إليه أو لا يشهد عليه ، فإن أشهد عليه بدفعها إليه فلا يخلو حال من أشهده عليه ليكون بينة عند إنكاره من أربعة أحوال :

أحدها : أن تكون بينة كاملة العدد كاملة الصفة .

والثاني : أن تكون ناقصة العدد ناقصة الصفة .

والثالث : أن تكون كاملة العدد ناقصة الصفة .

والرابع : أن تكون ناقصة العدد كاملة الصفة .

فإن أشهد بينة كاملة العدد كاملة الصفة ، مثل أن يشهد شاهدين عدلين أو شاهدا وامرأتين فله الرجوع بالألف سواء بقي الشهود على حالهم أو ماتوا ، أو فسقوا ؛ لأن حدوث الموت والفسق مما لا يمكن الاحتراز منه ، وهل يراعى فيمن أشهده العدالة الظاهرة كشهود النكاح ، أو تراعى فيهم العدالة الظاهرة والباطنة كشهود القاضي إذا أراد إنفاذ الحكم بشهادتهم ؟ على وجهين :

أحدهما : أنه تراعى فيهم العدالة الظاهرة كالنكاح ؛ لأن العدالة الباطنة يتعزز الوصول إليها .

والوجه الثاني : إن المراعى فيمن يشهد العدالة الباطنة كشهود الحاكم لأن المقصود بها إثبات الشهادة عند الحاكم .

[ ص: 450 ] فعلى هذا إن أشهد عدلين في الظاهر فاسقين في الباطن لم يرجع فكان مفرطا ، وإن كان من أشهده ناقص العدد ناقص الصفة مثل أن يشهد شاهدا واحدا . . عبدا أو فاسقا فهذا كمن لم يشهد ؛ لأن المقصود بالشهادة إثبات الحق بها عند التنازع ، وهذه شهادة لا يثبت بها حق فكان وجودها كعدمها ، وإن كان من أشهد كامل العدد ناقص الصفة مثل أن يشهد شاهدين عبدين أو فاسقين فليست هذه بينة ، وهي كمن لم يشهد ؛ لأن الحق لا يثبت بها عند التنازع ، فلو أعتق العبدان أو عدل الفاسقان بعد إشهادهما فإن ثبت الحق بشهادتهما رجع به ، وإن لم يثبت كموتهما قبل أداء الشهادة فلا رجوع به له لتفريطه في الابتداء حين أشهدهما .

وإن كان من أشهده ناقص العدد كامل الصفة مثل أن يشهد شاهدا واحدا عدلا فإن اقتصر على إشهاده ولم يرد أن يحلف معه فليست هذه بينة ويكون حكمه حكم من لم يشهد ، وإن اقتصر على إشهاده ليحلف معه فعلى وجهين :

أحدهما : أنها بينة ، وله الرجوع لأن الشاهد واليمين بينة كالشاهدين .

والوجه الثاني : أن يكون مفرطا بمثابة من لم يشهد ؛ لأن من الحكام من لا يحكم بالشاهد واليمين إذا ثبت ما وصفنا وأشهد من لا يكون مفرطا بإشهاده على ما بينا ، فلا يخلو أن يثبت بهم البينة على المنكر للقبض أم لا ، فإن ثبتت البينة عليه بشهادتهم حكم عليه باستيفاء حقه ، وبرئ منه الضامن والمضمون عنه ، وكان للضامن أن يرجع بما أداه ، وإن لم تقم البينة لموتهم أو حدوث فسقهم أو بعد غيبتهم فالقول قول المضمون له المنكر مع يمينه أنه لم يقبض حقه من الضامن ، ثم هو على حقه من مطالبة من شاء من الضامن والمضمون عنه ، فإن رجع على المضمون عنه فأخذ حقه منه برئ الضامن والمضمون عنه معا ، وكان للضامن أن يرجع على المضمون عنه بما أداه لأنه لم يكن منه تفريط فيصير المضمون عنه غارما لألفين : ألف منها أداء إلى المضمون له ، وألف غرمها للضامن بأدائها عنه ، وإن رجع المضمون له حين حلف على الضامن كان للضامن أن يرجع على المضمون عنه بالألف الأولى دون الثانية : لأنه بالثانية مظلوم فلا يرجع بها على غير من ظلمه ، فهذا حكم الضامن إذا أشهد فيما دفع والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية