[ ص: 462 ] مسألة : قال
المزني : " وضعف
الشافعي كفالة الوجه في موضع وأجازها في موضع آخر إلا في الحدود " .
قال
الماوردي : ولما مضى ضمان الأموال عقبه
المزني بكفالة الأبدان ، فإذا تكفل رجل بنفس رجل ولم يكن على المكفول مطالبة بحق فالكفالة باطلة ، وإن كان عليه ما يستحق المطالبة به فقد نص
الشافعي في ثلاثة كتب على جوازها نص عليه في اختلاف
أبي حنيفة وابن أبي ليلى وفي كتاب الإقرار والمواهب ، وفي كتاب الدعوى والبينات بعد أن نص على جوازها ، غير أن الكفالة بالنفس ضعيفة ، وقال في موضع آخر :
ولا يكفل رجل في حد ولا لعان ، فاختلف أصحابنا في مذهب
الشافعي رحمه الله لاختلاف ما حكينا عنه فكان
أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة وأبو حامد المروزي يقولون :
الكفالة في الحدود باطلة وفي الأموال على قولين :
أحدهما : جائزة وهو مذهب
أبي حنيفة ومالك والفقهاء السبعة
بالمدينة ، ودليل جوازها قوله تعالى :
قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم [ يوسف : 66 ] والموثق الكفيل فامتنع
يعقوب من إرسال ولده مع إخوته إلا بكفيل يكفل به ، وروي أن
العباس بن عبد المطلب تكفل
بأبي سفيان بن حرب عام الفتح لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروي أن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخذ من
عبد الله بن عمر كفيلا بنفسه حين توقف عن بيعته فكفلت به
nindex.php?page=showalam&ids=12329أم كلثوم بنت علي لأنها كانت زوجة
عمر ، وقيل بل كفلت به أخته
حفصة ، وروي أن رجلا جاء إلى
عبد الله بن مسعود فقال : إني مررت
بعبد الله بن نواحة وهو يؤذن فسمعته يقول أشهد أن
مسيلمة رسول الله فكذبت سمعي ووقفت حتى سمعت أهل المسجد يضجون به فبعث
ابن مسعود إلى
ابن النواحة فدعاه وأصحابه فقال : ما صنعت بالقرآن الذي كنت تتلوه ؟ قال : كنت أتقيكم به فأمر بضرب عنقه واستشار
الصحابة في أصحابه فقالوا يستتابون ويكفلون ، فاستتابهم فتابوا وكفلهم عن عشائرهم فدل على أن إجماع
الصحابة منعقد بجواز
الكفالة .
ولأنه لما جاز ضمان ما في الذمة جاز ضمان ذي الذمة ، إذ لا فرق بين ضمان الحق وبين ضمان من عليه الحق ، ولأن الكفالة كالإجارة ولأن كل واحد منهما عقد على عين لاستيفاء الحق منها فلما جازت الإجارة وجب أن تجوز
الكفالة ، ولأن ضمان الأموال إنما كان
[ ص: 463 ] لما فيه من الرفق والتوسعة فكذا كفالة النفوس لما فيها من الرفق والتوسعة ، وهو أن يرتفق المكفول به في الإطلاق ليسهل عليه طلب الحق ويستوثق المكفول له فيسهل عليه التماس من عليه الحق .
والقول الثاني : إن كفالة النفوس باطلة ، ودليل بطلانها قوله تعالى :
قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده [ يوسف : 79 ] فكان قوله "
معاذ الله " إنكارا للكفالة أن تجوز حين سأله إخوته أن يأخذ أحدهم كفيلا ممن وجد متاعه عنده ، ولأن ما لا يضمن باليد لا يضمن بالعقد كالميتة والخمر ولأنه عقد ضمان لا يستحق على الضامن المطالبة بمقتضاه فوجب أن يكون باطلا كضمان القصاص .
ولأن من لم يصح أخذه بمقصود العقد لم يصح منه ذلك العقد كبيع الصبي والمجنون ولأنه ضمان عين في الذمة ، فوجب ألا يصح كالمسلم في الأعيان ، ولأنها كفالة لا تصح بغير إذن المكفول به فوجب ألا تصح بإذنه ، أصله إذا كفل بالشهود ليحضرهم للأداء ولأن المكفول به لا يجب عليه تسليم نفسه وإنما يجب عليه الخروج من الحق وحبسه إن حبس ليخرج من الحق فلأن لا يجب على الكفيل تسليم المكفول به أولى ؛ لأن ما لا يلزم المضمون عنه فأولى ألا يلزم الضامن ولأنه إن استحق إحضاره مجلس الحكم فهو على الحاكم أوجب ، فإن عجز عنه الحاكم فالكفيل عنه أعجز فهذا توجيه القولين وهي طريقة من ذكرنا من أصحابنا .
وكان
أبو العباس بن سريج وطائفة من متقدمي أصحابنا يقولون الكفالة بالنفوس جائزة في الأموال قولا واحدا وفي الحدود على قولين :
أحدهما : جائزة كالأموال .
والثاني : باطلة ؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات فلا معنى للتوثق فيها بالكفالات ، وسواء في الحدود ما كان من حقوق الآدميين كالقذف والقصاص أو ما كان لله كالخمر والزنا ، وتأولوا قول
الشافعي " غير أنها ضعيفة " يعني غير أن القياس فيها ضعيف لكن لما اقترن به السنة والأثر وجب المصير إليه لا أن ذلك قول ثان في إبطالها كما قال في النائم قاعدا لو صرنا إلى النظر توضأ بأي حالاته كان ، فأسقط النظر للخبر فلم يدل ذلك على اختلاف قوله فيه وكما قال في القديم آذان الصبح قبل الوقت ، وليس ذلك بقياس لكن اتبعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما قوله ولا يكفل رجل في حد ولا لعان فمن أبطل الكفالة في الحدود حمل ذلك على ظاهره ، ومن جوزها في الحدود على أحد القولين تأول ذلك على إبطال الكفالة بنفس الحد واللعان لا بنفس من وجب عليه الحد واللعان .
[ ص: 464 ]