فصل : وأما القسم الثالث : وهو
شركة المفاوضة فهو أن يشتركا في الناض من أموالها كله دون العروض ليرد كل واحد منهما على صاحبه نصف كسبه من المال وغيره ، فهذه شركة باطلة ، قال
الشافعي في كتاب اختلاف
أبي حنيفة وابن أبي ليلى : لا أعرف شيئا من الدنيا يكون باطلا إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة .
وقال
أبو حنيفة ومالك وهو قول
الأوزاعي والثوري إن شركة المفاوضة جائزة إذا استوى المالان وكانا مسلمين ويدخل فيها جميع الكسب إلا الميراث ويلزم فيها غرم كل واحد منها إلا الجناية تعلقا بقوله تعالى :
ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [ المائدة : 1 ] وهذا عقد فلزمهما بظاهر هذه الآية الوفاء به .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال
المؤمنون عند شروطهم فوجب أن يلزمهما ما شرطاه قال : ولأنه نوع شركة فوجب أن يكون منها ما يصح كشركة العنان ، ولأن شركة المفاوضة أعم من شركة العنان فعموم الشركة لا يمنع من صحتها ، ألا ترى أن شركة العنان قد تكون خاصة في نوع واحد وتكون تارة عامة إذا تشارطا التجارة في كل نوع ، فلما جازت في حال عمومها كجوازها في حال خصوصها كذلك شركة المفاوضة تجوز وإن كانت عامة كجواز غيرها من الشرك الخاصة ، ولأن الربح في الأموال قد يقابل المال تارة كالشركة وقد يقابل العمل تارة كالمضاربة ، والربح في شركة المفاوضة لا يخلو من أن يكون مقابلا للمال أو للعمل ولأيهما قابل وجب أن يجوز .
ودليلنا نهيه صلى الله عليه وسلم عن الغرر ، ولا غرر أعظم من المفاوضة فيما يدخل كسبا أو يخرج غرما لأنها شركة لا تصح مع تفاضل المال فوجب أن لا تصح مع تساوي أصله إذا كان أحدهما مكاتبا أو ذميا ، ولأن كل شركة لا تصح بين المسلم والذمي والحر والمكاتب لا تصح بين الحرين المسلمين ، أصله إذا تفاضلا في المال ؛ ولأن ما لم يتفرع عن أصل تناوله عقد الشركة لم تصح فيه الشركة كالميراث ، ولأنها شركة لا تصح مع مختلفي الدينين فلم تصح مع متفقي الدينين كشركة العروض ، فأما الجواب عن قوله تعالى :
أوفوا بالعقود فهو أنها مخصوصة بنهيه عن الغرر ، وأما الجواب عن قياسهم على شركة العنان فهو أنه منتقض باشتراك الجماعة في الماء
[ ص: 476 ] إذا كان لأحدهم جمل وللآخر سقاء والثالث عامل بيديه ليكونوا شركاء في الكسب فهو نوع شركة وليس فيه ما يصح ، ثم المعنى في شركة العنان جوازها بين مختلفي الدينين .
وأما الجواب عن استدلالهم بأن عمومها لا يمنع من صحتها ، فهو أننا لم نمنع منها لعمومها وإنما منعنا منها لدخول الغرر فيها ، وأما الجواب عن استدلالهم بأن الربح قد يقابل المال تارة والعمل أخرى فهو أنه يصح إذ انفرد كل واحد منهما بعقد ، فأما إذا اجتمعا في عقد واحد فلا ، وهاهنا وقد اجتمعا في عقد واحد فبطل .