فصل : وإذا كان كذلك
فالإقرار لا يصح إلا بشروط أربعة : بمقر ، ومقر له ، ومقر به ، ومقر عنده .
فأما
الشرط الأول : وهو المقر : فهو المخبر بالحق عليه ، والمقرون ضربان : مكلف ، وغير مكلف . فأما غير المكلف ، وهو
الصبي ، والمجنون فإقرارهما باطل سواء كان بمال ، أو بدن ولا يتعلق به حكم في الحال ولا بعد البلوغ ، والإفاقة .
وجوز
أبو حنيفة إقرار المراهق إذا كان بإذن أهله ، أو كان مأذونا له في عقد فأقر بدين صح بناء على صحة إسلامه وجواز عقده بإذن وليه ، واستدلالا بأن
من صحت وصيته صح إقراره كالبالغ . وهذا خطأ لأن عدم التكليف يمنع من صحة الإقرار كالجنون ، ولأن
كل إقرار منع منه الجنون منع منه الصغر كالإقرار بالبدن ، ولأن الأصل الذي بني عليه جواز إقراره أن
[ ص: 5 ] ممن يصح إسلامه ويجوز عقده ، لا نسلمه بل لا يصح إسلامه ولا يجوز عقده وسيأتي الكلام فيه مستوفيا في موضعه إن شاء الله تعالى .
وأما قياسه على الوصية ففي جواز وصيته قولان :
أحدهما : باطلة : فعلى هذا سقط السؤال .
والثاني : جائزة .
فعلى هذا الفرق بين إقراره ووصيته : أن في لزوم إقراره إضرارا به فسقط . وفي صحة وصيته رفقا به فأمضيت . وأما المكلف فضربان :
محجور عليه ، وغير محجور عليه . أما غير المحجور عليه :
فهو
البالغ الرشيد العاقل فإقراره صحيح إذا أقر مختارا وباطل إن أقر مكرها ، وسواء كان المقر رجلا ، أو امرأة مسلما ، أو كافرا ، عدلا ، أو فاسقا وإقرار جميعهم لازم .
وأما المحجور عليه فضربان :
أحدهما : من حجر عليه لأجل نفسه .
والثاني : من حجر عليه لأجل غيره .
فأما المحجور عليه لأجل نفسه فهو
السفيه ، وإن أقر ببدن من قصاص ، أو حد نفذ إقراره فيه ؛ لأنه لا حجر عليه في بدنه ،
وإن أقر بمال لم يلزم إقراره فيه ما كان الحجر عليه باقيا ، فإن فك حجره لم يلزم ذلك حكما لبطلان الإقرار ، ولزمه ذلك فيما بينه وبين الله تعالى إذا كان على يقين من لزومه وسواء كان ما أقر به حقا لله تعالى ، أو حقا لآدمي . فلو كان حين
أقر سفيها لكن لم يحجر عليه الحاكم فإقراره لازم في المال ، والبدن جميعا ، وهو في الإقرار كالرشيد .
وأما
المحجور عليه لأجل غيره فأربعة :
أحدهم : العبد المحجور عليه لأجل سيده .
والثاني : المفلس محجور عليه لأجل غرمائه .
والثالث : المريض محجور عليه لأجل ورثته .
والرابع : المرتد محجور عليه في حق بيت المال .
ومعنى الحجر في كل واحد منهم مختلف وسنفرد الحكم في إقرار كل واحد منهم .
أما
العبد فإقراره على ضربين :
[ ص: 6 ] أحدهما : في بدن كحد ، أو قصاص فإقراره به لازم واستيفاؤه في الحال واجب صدق السيد ، أو كذب .
والضرب الثاني : في مال ، فعلى ضربين :
أحدهما : عن
جناية فإقراره به غير لازم في الحال إلا أن يصدق السيد فيتعلق الإقرار برقبته وتباع فيما أقر به من جنايته . وإن كان السيد مكذبا تعلق بذمته ويؤخذ به بعد عتقه ويساره .
والضرب الثاني : أن يكون عن
معاملة فإن كان مأذونا له في التجارة كان إقراره لازما فيما بيده صدق السيد أم كذب ؛ لأنه مسلط عليه بالإذن . وإن كان غير مأذون له في التجارة كان إقراره متعلقا بذمته يؤخذ به بعد عتقه ، ويساره سواء صدق السيد أم كذب .
ونحن نستوفي شرح ذلك ، وما يتعلق بالخلاف فيه من بعد . وأما
المفلس فإقراره لازم في حالة حجره لكن إن صدقه الغرماء كان المقر له شريكا له في ماله يخاصمهم بقدر ما أقر به ، وإن كذبه الغرماء ، فعلى قولين مبنيين على اختلاف قوليه في حجره هل يجري مجرى حجر السفه ، أو يجري مجرى حجر المرض .
أحدهما : أنه يجري مجرى حجر السفه ، فعلى هذا لا يشارك الغرماء به ويؤخذ به بعد فك حجره .
والثاني : أنه يجري مجرى حجر المرض ، فعلى هذا يشاركهم في ماله بالقدر الذي أقر . وأما المريض فإقراره لازم في المال ، والبدن وفيه مسائل تأتي مسطورة .
وأما
المرتد فإقراره في بدنه لازم قبل الحجر وبعده ، وأما
إقراره في ماله فإن كان بعد حجر الحاكم عليه فقد اختلف أصحابنا في حجره على وجهين :
أحدهما : أنه يجري مجرى حجر المرض ، فعلى هذا عقوده لازمة وإقراره نافذ .
والثاني ؛ أنه يجري مجرى حجر السفه ، فعلى هذا عقوده باطلة وفي إقراره وجهان .
وإن كان إقراره قبل حجر الحاكم عليه فقد اختلف أصحابنا : هل يصير محجورا عليه بنفس الردة أم لا ؛ على وجهين :
أحدهما : قد صار محجورا عليه ، فعلى هذا يكون إقراره على ما مضى .
والثاني : أنه لا يصير محجورا عليه إلا بحكم حاكم ، فعلى هذا يكون إقراره لازما نافذا .
[ ص: 7 ] فأما السكران فلا يخلو حال سكره من أحد أمرين :
إما أن يكون من معصية . أو من غير معصية .
فإن كان من غير معصية فإقراره باطل لا يلزم في مال ، ولا بدن كالمجنون ، والمغمى عليه ، ولا يؤخذ بشيء منه بعد إفاقته .
وإن كان سكره معصية فالمذهب لزوم إقراره في المال ، والبدن كما يقع طلاقه . وقد خرج
المزني قولا في القديم أن
طلاقه لا يقع ، فعلى هذا إقراره لا يلزم في مال ، ولا بدن .
فأما الذي يجن في زمان ويفيق في زمان ، فإن
أقر في زمان جنونه بطل إقراره ، وإن
أقر في حال إفاقته لزم إقراره .
فلو
اختلفا بعد إفاقته هل كان الإقرار في حال الجنون أم الإفاقة ؟ فقال المقر : كنت عند الإقرار مجنونا ، وقال الآخر : بل كنت مفيقا ، فعلى وجهين ، فهذا حكم المقر .
قال
الشافعي :
ومن لم يجز بيعه لم يجز إقراره . وفيه لأصحابنا تأويلان :
أحدهما : من لم يجز بيعه بحال كالصبي ، والمجنون لم يجز إقراره في حال من الأحوال . وهذا قول
ابن أبي هريرة .
والثاني : أن من لم يجز بيعه في شيء لم يجز إقراره في ذلك الشيء فهذا الكلام في الشرط الأول وهو مسألة الكتاب .