فصل : وأما الضرب الثاني : وهو
أن يكون رده ممتنعا للجهل بمكانه فيؤخذ الغاصب جبرا بقيمته أكثر ما كانت من وقت الغصب إلى فوات الرد ، فإذا أخذها المغصوب منه ففي استقرار ملكه عليها وجهان لأصحابنا :
أحدهما : أن يكون ملكه عليها مستقرا لفوات الرد .
والوجه الثاني : مراعى لجواز القدرة على الرد ، فإن
وجد العبد المغصوب بعد أخذ قيمته ، فقد اختلفوا في حكمه : فذهب
الشافعي ومالك إلى أنه باق على ملك المغصوب منه بأخذه وبرد ما أخذ من قيمته ، وقال
أبو حنيفة : يكون العبد ملكا للغاصب بما دفعه من قيمته ما لم يكونا قد تكاذبا في قيمته ، فإن كانا قد تكاذبا فيها وأقر الغاصب بأقل منها وحلف عليها ، كان المغصوب منه أحق بالعبد حينئذ ؛ استدلالا بأن البدل إذا كان في مقابلة مبدل كان استحقاق البدل موجبا لملك المبدل ، كالبيع والنكاح : لما استحق على المشتري الثمن تملك المثمن ، ولما استحق على الزوج المهر ملك البضع ، كذلك الغصب لما ملك المغصوب منه القيمة ، ملك الغاصب المغصوب ، ولأن الجمع بين البدل والمبدل مرتفع في الأصول ، وفي بقاء ملك المغصوب منه العبد بعد أخذ قيمته جمع بينه وبين بدله ، وذلك باطل كالبائع : لا يجوز أن يجتمع له ملك الثمن والمثمن ، والزوجة : لا يجوز أن يجتمع لها المهر والبضع ؛ ولأن ما أخذت قيمته للمغصوب ، امتنع بقاؤه على ملك المغصوب قياسا على ما أمكن رده . ودليلنا قوله تعالى :
لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ ص: 217 ] [ النساء : 29 ] فما خرج عن التراضي خرج عن الإباحة في التمليك . وروى
قتادة عن
الحسن عن
سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923349على اليد ما أخذت حتى تؤدي . فجعل الأداء غاية الأخذ ، فاقتضى عموم الظاهر استحقاقه في الأحوال كلها ، ولأن قدرة المعاوض على ما عاوض عليه أولى بصحة تملكه من العجز عنه ، ثم ثبت أن
الغاصب لو كان قادرا على العبد المغصوب فكتمه وبذل قيمته لم يملكه ، فإذا بذلها مع العجز عنه فأولى أن لا يملكه . ويتحرر منه قياسان :
أحدهما : أن كل ما لم يملك بالقيمة مع القدرة عليه فأولى أن لا يملك بالقيمة مع العجز عنه ؛ قياسا عليه إذا كانت القيمة من غير نقد البلد ، أو كانت من نقد البلد فلم تقبض .
والثاني : أن كل ما لم يملك بالقيمة من غير نقد البلد ، لم يملك بالقيمة من نقد البلد ؛ قياسا على المكتوم ؛ ولأن تملك الشيء عن رضى مالكه أشبه بالصحة من تملكه بكره مالكه ، ثم ثبت أنهما لو تبايعا الآبق عن تراض لم يملكه ، فأولى إذا صار إلى قيمته مع الإكراه أن لا يملك . ويتحرر من اعتلاله قياسان :
أحدهما : أنها معاوضة من غير مقدور عليه فوجب أن لا يملك كالبيع .
والثاني : أن ما لم يملك بثمن المراضاة فأولى أن لا يملك بقيمة الإكراه ، كأم الولد إذا وجدها الغاصب بعد دفع القيمة ؛ لأن حكم الحاكم أبلغ في صحة التمليك ما لم ينفذ فيه حكم الحاكم ، فلما كان أخذ القيمة بحكم الحاكم عند تكاذبهما فيها وإحلاف الغاصب عليها لا يوجب تمليك المغصوب ، فأولى إذا تجردت لتصادقهما عليها من حكم حاكم ، أن لا يوجب تملك المغصوب . ويتحرر من اعتلاله قياسان :
أحدهما : أنها غرامة إتلاف فوجب أن يمنع من الملك قياسا على أخذها بحكم .
والثاني : أن ما لم يملك بالغرم عن حكم لم يملك بالغرم من غير حكم قياسا على التالف قبل الغرم ؛ ولأن كل بدل جاز المصير إليه لفقد مبدله كان وجود المبدل مانعا في التصرف في بدله كالمتيمم إذا وجد الماء ، وآكل الميتة إذا وجد الطعام ؛ ولأن كل بدل وجب بفوات مبدل كان عود المبدل موجبا لسقوط البدل قياسا على الجاني على عين فابيضت ثم زال بياضها ، أو على يد فشلت ثم زال شللها ؛ ولأن ما أوجب ملك بدله تمليك مبدله ، كان امتناع ملك المبدل مبطلا لملك البدل كالبيع لا يملك به ثمن أم الولد ؛ لأنها لا تملك ويملك به ثمن غيرها مما يملك ، فلما استوى في الغصب بدل ما يجوز أن يملك من الأموال ، وما لا يجوز أن يملك من الأوقاف وأمهات الأولاد ، دل على أن ملك البدل فيه لا يوجب تمليك مبدله ، وبهذا يكون الانفصال عن دلائلهم فتأمله تجده مقنعا ، ثم المعنى في البيع الذي جعلوه أصلا في الاستدلالين أن الثمن فيه موضوع للتمليك ، والقيمة في الغصب غير موضوعة للتمليك ، ألا ترى
[ ص: 218 ] أن ثمن التالف لا يملك وقيمة التالف تملك . وأما قياسهم على ما أمكن رده فالمعنى فيه أنه يصح بيعه وتمليكه ، والقيمة فيه بدل من الحيلولة دون الفوات .