الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " وإذا غربت الشمس فهو وقت المغرب والأذان ولا وقت للمغرب إلا وقت واحد "

قال الماوردي : فهذا كما قال : " وأول وقت المغرب غروب الشمس وهو : أن يسقط القرص ويغيب حاجب الشمس ، وهو الضوء المستعلي عليها كالمتصل بها ، وقال بعض أهل اللغة : هو أحد قرنيها أول ما يطلع منها وآخر ما يغرب منها واستشهد بقول قيس بن الخطيم :


تبدت لنا كالشمس تحت غمامة بدا حاجب منها وضنت بحاجب

ولا وجه لما ذهبت إليه الشيعة من أن أول وقتها إذا اشتبكت النجوم ، لرواية سلمة بن الأكوع قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ساعة تغرب الشمس إذا غاب حاجبها "

وروى أبو محذورة قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أذنت للمغرب فاحدرها مع الشمس حدرا "

وروى " أبو نعيم " عن جابر قال : كنا نصلي المغرب ، ثم نخرج نتناضل حتى نبلغ بيوت بني سلمة ، فنبصر مواقع النبل من الأسفار " . فإذا ثبت أن أول وقتها سقوط القرص فليس لها إلا وقت واحد

وقال أبو حنيفة : لها وقتان يمتد الثاني منهما إلى غروب الشفق وقد حكاه أبو ثور عن [ ص: 20 ] الشافعي في القديم ، فمن أصحابنا من خرجه قولا ثانيا وأنكره جمهورهم أن يكون قولا محكيا عنه : لأن الزعفراني وهو أثبت أصحاب القديم حكى عنه للمغرب وقتا واحدا

واستدل من قال بالوقتين برواية شعبة عن قتادة ، عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وقت المغرب ما لم يسقط نور الشفق وبرواية علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب في اليوم الأول حين غربت الشمس ، وفي اليوم الثاني حين غاب الشفق "

وبرواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن للصلاة أولا وآخرا ، وإن أول وقت المغرب إذا غربت الشمس وآخره حين يغيب [ الشفق ] وبرواية زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ الأعراف في المغرب ، ولا يمكن قراءتها مع طولها إلا مع طويل الزمان ، فدل على طول المغرب ، ولأنها صلاة فرض فجاز أن تكون ذات وقتين كسائر المفروضات ، ولأنها صلاة تجمع إلى غيرها فوجب أن يتصل وقتها بوقت ما يجمع إليها ، كالظهر ، والعصر ، ولأن صلاة المغرب تجب على الصبي إذا بلغ ، والحائض إذا طهرت ، والكافر إذا أسلم قبل غيبوبة الشفق ، فلولا أنه وقتها ما وجب عليهم فرضها اعتبارا لأول وقتها

ودليلنا حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أمني جبريل فصلى بي المغرب في اليوم الأول حين أفطر الصائم ، ثم صلى بي المغرب في اليوم الثاني للقدر الأول لم يؤخرها

وحديث عطاء عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بين الأوقات للسائل ، صلى المغرب في اليوم الأول حين غابت الشمس ، وفي اليوم الثاني لوقتها بالأمس

وروى مخرمة بن سليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أمني جبريل ظهرين وعصرين وعشاءين ، فقدم وأخر ، والمغرب لوقت واحد

[ ص: 21 ] وروى يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله قال : قدم علينا أبو أيوب غازيا ، وعقبة بن عامر يومئذ على " مصر " ، فأخر المغرب ، فقام إليه أبو أيوب فقال : ما هذه الصلاة يا عقبة ؟ فقال : شغلنا ، فقال : أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تزال أمتي على فطرتي ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم "

فكان صريح الخبر ، وإنكار أبي أيوب دليلا على أنها ليس لها إلا وقت واحد

وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تزال أمتي على سنتي ما بكروا بصلاة المغرب

فدل على أن تأخيرها ليس مما جاءت به سنته صلى الله عليه وسلم

‌‌‌وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أخر ليلة المغرب حتى طلع نجمان فأعتق رقبتين . قال : " صلوا هذه الصلاة والفجاج مسفرة " . وهذا بمشهد الصحابة ، فدل هذا مع إنكار أبي أيوب على عقبة على أنهم مجمعون على أنه ليس للمغرب إلا وقت واحد

وأما القياس : وإن لم يكن في المواقيت أصلا معتبرا ، ولكن يقابل به ما أورده فهو أنها صلاة فرض لا تقصر ، فوجب أن ينفصل وقتها عن وقت ما بعدها كالصبح ، ولأنها صلاة فرض ، فوجب أن يكون وقتها في الشفع والوتر كعددها أصله سائر الصلوات ، لما كانت شفعا في العدد كانت شفعا في الوقت ، والمغرب لما كانت وترا في العدد كانت وترا في الوقت ، وقد قيل : في تأويل قوله تعالى : والشفع والوتر [ الفجر : 3 ] . أنها الصلوات الخمس منها شفع كالظهر ، ووتر كالمغرب

فأما الجواب عن حديث عبد الله بن عمر ، فقد رواه شعبة في آخر أيامه موقوفا عليه ، فقيل : إنك وصلته . فقال : إن كنت مجنونا فقد أفقت

وأما حديث سلمان بن بريدة عن أبيه ، فهو في الضعف عند أصحاب الحديث ، كعمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده ، وقد أنكر هذا الحديث يحيى بن سعيد ، وقال مسلم : لا يحدث بهذا وأمرض سمعه فضرب عليه

وأما حديث أبي هريرة ، فقد غلط فيه ابن فضيل ، وهو الذي رواه عن الأعمش ، عن أبي صالح ، وقد روي عن أبي هريرة مسندا أن لها وقتا واحدا ، ثم لو سلمنا هذه الأخبار الثلاثة لجاز أن نستعملها على وقت الاستدامة دون الابتداء على مذهب الإصطخري من أصحابنا ، وأما قراءة النبي صلى الله عليه وسلم " بالأعراف في المغرب " ففيه أجوبة :

[ ص: 22 ] أحدها : أن السورة كانت تنزل متفرقة ولم تكن تكامل إلا بعد حين فيجوز إن قرأها قبل تكاملها وكانت آيات يسيرة ، ألا ترى أن سورة المزمل مع قصرها عن الأعراف فكان بين أولها وآخرها سنة

والثاني : أنه قرأ منها الآي التي فيها ذكر الأعراف ، فقيل : قرأ الأعراف . كما يقول القائل : شربت ماء المطر وأكلت خبز البصرة . وإنما أكل وشرب شيئا منه

والثالث : أنه محمول على الاستدامة ، وأما قياسهم على سائر الصلوات ، فالمعنى فيها : أنها شفع في العدد ، وهذا وتر في العدد ، وأما قياسهم على الظهر والعصر ، فمنازع فيه بمعارضة قياسنا له . وأما الجواب عن استدلالهم بوجوبها على أصحاب الضرورات ، فهو : أن أصحاب الضرورات والأعذار يلزمهم فرضها إلى طلوع الفجر عندنا ، وإن لم يكن وقتا لها ، لأن وقت المغرب والعشاء في الضرورات واحد

التالي السابق


الخدمات العلمية