مسألة : قال
الشافعي : " فإذا طلعت الشمس قبل أن يصلي ركعة منها فقد خرج وقتها ، فاعتمد في ذلك على إمامة
جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم ولما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك "
قال
الماوردي : وقد مضى الكلام في بيان مواقيت الصلاة الخمس في أوائلها وأواخرها وما يتعقبها أوقات الجواز منها ، وهي أوقات المرفهين ، وإذا كان كذلك مقدرا فقد اختلف الناس
هل تجب الصلاة بأول وقتها أو بآخره ؟ فمذهب
الشافعي ، ومالك ، وأكثر الفقهاء أنها تجب بأول وقت ورفه بتأخيرها إلى آخر الوقت ، وأما
أبو حنيفة فقد اختلف أصحابه في مذهبه ، فحكى عنه
محمد بن شجاع البلخي مثل مذهبنا ، وحكى
أبو الحسين الكرخي أن جميع وقت الصلاة وقت لأدائها ، ويتعين الوجوب بفعلها أو بضيق وقتها ،
[ ص: 31 ] وحكى جمهور أصحابه أنها تجب بآخر الوقت ، واختلف أصحابه على هذا المذهب . فحكى بعضهم عنه أنها تكون نفلا تمنع من وجوب الفرض ، وحكى بعضهم : أنها تكون موقوفة مراعاة ، فإن بقي على صفة المكلفين إلى آخر الوقت تيقنا أنها كانت فرضا وإن زال عن صفة التكليف تبينا أنها كانت نفلا ، وهكذا قال في تعجيل الزكاة ، واختلف أصحابنا في تأخيرها عن أول الوقت إلى آخره ، هل يجب أن يكون مشروطا بالعزم على فعلها فيه ؟ على وجهين :
أحدهما : لا يلزم اشتراط العزم فيه ولا يقضي بتأخيرها من غير عزم
والثاني : يلزم اشتراط العزم في تأخيرها لإباحة التأخير على صفة الأول قبل العزم ، فإن أخرها من غير عزم على فعلها في آخر الوقت كان عاصيا ، وإن كان لها مؤديا ، وقد اختلف أصحابه إذا بقي منه قدر الإحرام إلا
زفر بن الهذيل ، فإنه قال : تجب إذا بقي من الوقت قدر تلك الصلاة ، فإن صح في أول الوقت استدلالا بأن ما وجب في زمان لم يجز تأخيره عن ذلك الزمان ، كصيام رمضان ، وما جاز تأخيره عن زمان لم يجب في ذلك الزمان ، كقضاء رمضان ، فلما جاز تأخير الصلاة عن أول الوقت إلى آخره دل على أنها لا تجب بأول الوقت وتجب بآخره ، ولأن وقت الصلاة كالحول في الزكاة ، لأنه يجوز
تقديم الصلاة في أول الوقت وتأخيرها إلى آخره ، كما يجوز
تعجيل الزكاة في أول الحول وتأخيرها إلى آخره ، ثم ثبت أن الزكاة تجب بآخر الحول لا بأوله ، وكذلك الصلاة يقتضي أن تجب بآخر الوقت لا بأوله
ودليلنا قول
جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم حين بين له في اليومين أول الوقت وآخره بين هذين وقت - يعني - وقت الوجوب والأداء ، لأنه قصد بيان الأمرين ، ولأنها من عبادات الأبدان المحضة ، فوجب أن يكون وقت فعلها المتبوع وقتا لها في الوجوب ، كالصيام ، ولأن كل وقت كان المصلي فيه مؤديا كان الفرض به واجبا كآخر الوقت ولا يدخل عليه الجمع ، لأنه يقوم مقام الأداء ، وليس بأداء على الإطلاق ، ولأن ما يستفاد بالوقت من أحكام الصلاة شيئان ، الوجوب والأداء فلما كان آخر الوقت يتعلق به الحكمان معا ، فأول الوقت أولى أن يتعلق به الحكمان معا ، لأن أوله متبوع ، وآخره تابع ، ولأن الوجوب أصل ، والأداء فرع ، فلما كان أول الوقت يتعلق به الأداء وهو فرع لم يجز أن ينتفي عنه الوجوب الذي هو أصل
فأما الجواب عن استدلال الأول بجواز التأخير فهو : إن ترك الصلاة في أول الوقت إنما هو وقت إلى بدل ، وهو فعلها في ثاني وقت ، وترك الشيء إلى بدل لا يدل على أنه ليس بواجب ، كالكفارة الواجبة فيها أحد الثلاثة ، ثم لم يدل ترك أحد الثلاثة إلى غيره على أنه ليس بواجب ، كذلك الصلاة . على أن من أصحابنا من قال الواجب على ضربين
موسع الوقت ، ومضيق الوقت ، فما ضيق وقته فحده ما ذكروه ، وما وسع وقته فليس حده
[ ص: 32 ] ما ذكروه [ والصلاة وسع وقتها ، ولم يضيق ، وأما ما ذكروه ، ] من الجمع بين وقت الصلاة ، وحول الزكاة فجمع فاسد ، لأن الزكاة تجب بانقضاء الحول ، والصلاة تجب قبل خروج الوقت ، فكيف يجوز أن يجمع بينهما في الوجوب
فصل . فإن ثبت أن وجوب الصلاة يكون بأول الوقت ، فاستقرار فرضها يكون بإمكان الأداء ، وهو : أن يمضي عليه بعد زوال الشمس قدر أربع ركعات ، وعند غروب الشمس ثلاث ركعات ، وبعد طلوع الفجر قدر ركعتين ، فيستقر حينئذ فرضها بهذا الزمان الذي أمكن فيه أداؤها بعد تقدم وجوبها بأول الوقت حتى لو مات من بعد هذا الزمان كان ميتا بعد استقرار الفرض ، ولو مات قبله وبعد دخول الوقت سقط عنه الفرض ، وقال
أبو العباس :
تجب الصلاة بأول الوقت ، ويستقر فرضها بآخره . قال : لأن فرضها لو استقر في أول الوقت بإمكان الأداء لم يجز أن يقصرها إذا سافر في آخر وقتها ، لاستقرار فرضها فلما جاز له القصر إذا سافر في آخر الوقت دل على أن الفرض لم يكن قد استقر وإنه بآخر الوقت يستيقن ، قال
أبو يحيى البخلي : ـ من أصحابنا - أن الصلاة تجب بأول الوقت وجوبا مستقرا وليس إمكان الأداء فيها معتبرا ، وكلا المذهبين فاسد ، واعتبار الإمكان في استقرار الفرض أولى وإن كان الوقت موسعا ، لأن حقوق الأموال لما كان الإمكان شرطا في استقرار فرضها كانت حقوق الأبدان أولى ، وليس جواز القصر في آخر الوقت دليلا على أن الفرض لم يكن مستقرا ، لأن القصر من صفات الأداء ، فلم يجز أن يكون سمة في استقرار الفرض ، كما أن الصحة ، والمرض لما كانا من صفات الأداء لم يجعلا سمة في استقرار الفرض ، والله أعلم