مسألة : قال
الشافعي - رحمه الله تعالى - : " وإذا تكارى الرجل الأرض ذات الماء من العين أو النهر أو عثريا أو غيلا أو الآبار ، على أن يزرعها غلة شتاء وصيف فزرعها إحدى
[ ص: 456 ] الغلتين ، والماء قائم ثم نضب الماء فذهب قبل الغلة الثانية فأراد رد الأرض لذهاب الماء عنها ، فذلك له ويكون عليه من الكراء بحصة ما زرع إن كان الثلث أو أكثر أو أقل ، وسقطت عنه حصة ما لم يزرع : لأنه لا صلاح للزرع إلا به " .
قال
الماوردي : وهذا كما قال .
إذا استأجر أرضا فلا بد من ذكر ما قد استأجرها له من زرع أو غرس أو بناء ، فإن أغفل ذكر ما يستأجرها له بطلت الإجارة لاختلافه ، ثم لا يذكر ذلك بلفظ الشرط بل يقول : " لتزرع " فإن أخرجها مخرج الشرط ، فقال : " على أن تزرعها " بطلت الإجارة : لأنه إذا جعله شرطا لزمه ، والمستأجر لا يلزمه استيفاء المنفعة ، وإنما هو إذا مكن منها مخير بين استيفائها أو تركها ، ألا ترى أن من استأجر دارا للسكنى كان مخيرا بين سكناها وتركها ، فإن شرط عليه سكناها في العقد فقيل فيه : " على أن يسكنها " بطلت الإجارة .
فإذا استأجر أرضا سنة لزرعها غلة شتاء وصيف ، فلا بد أن يكون لها وقت العقد ماء قائم يسقي به الزرع من عين ، أو نهر ، أو نيل ، أو عثري ، وهو : الماء المجتمع في أصول الجبال ، أو على رؤوسها ، أو غيلا ، وهو : السيح الجاري ، سمي سيحا : لأنه يسيح في الأرض ، أو غللا وهو : الماء بين الشجر . وإنما افتقر عقد الإجارة عليها إلى وجود الماء لزرعها : لأن الزرع لا ينبت في جاري العادة إلا بماء يسقيه ، فلزم أن يكون لها ماء يمكن معه استيفاء المنفعة منها : لأن على المؤجر تمكين المستأجر من استيفاء المنفعة فبطلت الإجارة ، وهكذا لو كان سقى زرعه بعلا ، أو عذيا ، والبعل : ما شرب بعروقه ، والعذي : ما سقته السماء ، فهي كالأرض التي لا ماء لها : لأنه غير قائم فيها ، وقد يكون ولا يكون ، فلا يصح إجارتها للزرع . فإذا استأجرها ولها ماء قائم فزرعها إحدى الغلتين ، ثم نضب الماء ، أو نقص ، أو ملح وتعذر عليه لأجل ذلك زرع الغلة الثانية نظر ، فإن توصل المؤجر إلى إعادة الماء بحفر نهر ، أو بئر ، أو استنباض عين فالإجارة بحالها ، ولا خيار للمستأجر فيها .
وإن تعذر عليه إعادة الماء ، أو أمكنه فلم يفعل لم يجبر عليه ، كما لا يجبر على بناء الدار إذا انهدمت ، ولا يجبر البائع على مداواة العبد المبيع إذا ظهر به مرض . ثم للمستأجر الخيار مع بقاء العقد بين المقام عليه أو الفسخ ، لما حدث من النقص بتعذر التمكين .
فإن قيل : فهلا بطلت الإجارة بانقطاع الماء عنها كما لو انهدمت الدار ، أو مات العبد ، قيل : الفرق بينهما أن الأرض المستأجرة باقية مع انقطاع الماء عنها ، والدار تالفة بانهدامها ، وكذلك العبد بموته ، فلم تبطل الإجارة بانقطاع الماء عن الأرض ، وإن بطلت بانهدام الدار وموت العبد ، واستحق المستأجر الخيار للنقص الداخل عليه ، فإن أقام فعليه الأجرة المسماة ، وإن فسخ فله فسخ الإجارة فيما بقي من المدة ، وفي جواز فسخها فيما مضى وجهان :
أحدهما : ليس له ذاك : لأنه قد صار مستهلكا لما مضى من المدة باستيفائها ، ومن استهلك معقودا عليه لم يستحق خيارا في فسخه ، فعلى هذا يقيم على ما مضى من المدة بحصته من الأجرة ، ويرجع لباقي المدة بحصته من الأجرة .
[ ص: 457 ] والوجه الثاني : له الخيار في فسخ ما مضى كما كان له الخيار في فسخ ما بقي : لأنها صفقة فلم يفترق حكمها في الخيار ، فعلى هذا إن فسخ في الجميع رجع بالمسمى ، وكان عليه أجرة المثل فيما مضى ، وإن أقام على ما مضى وفسخ فيما بقي ، لزمه من الأجرة بقسط ما مضى ، ورجع منها بقسط ما بقي ، وقد خرج قول آخر : أنه يقيم على ما مضى بكل الأجرة ، وإلا فسخ وهذا ليس بصحيح .
فإذا أراد أن يرجع بحصة ما بقي لم يقسط ذلك على المدة ، وإنما يقسط على أجرة المثل ، فإذا كان الماضي من المدة نصفها لم يرجع بنصف الأجرة ، وقيل : كم تساوي أجرة مثل المدة الماضية ؟ فإذا قيل : عشرون دينارا ، قيل : وكم تساوي أجرة مثل المدة الباقية ؟ فإذا قيل : عشرة دنانير ، رجع بثلث الأجرة ، ولو كان أجرة ما مضى عشرة وأجرة ما بقي عشرين ، رجع بثلثي الأجرة : لأنه قد تختلف أجرة مثل المدتين ، فلم يجز أن يقسط على أعدادها ، ولزم أن يقسط على أجور أمثالها ، والله أعلم .