فصل : والضرب الثاني أن تكون
دعوى رقه بعد التقاطه ، فلا تسمع هذه الدعوى إلا ببينة ، لا يختلف أصحابنا فيه ، سواء ادعاه ملتقطه أو غيره ، وفرق ما قبل التقاطه وبعده أن قبل الالتقاط لم تستقر عليه يد وبعد الالتقاط قد استقرت عليه يد ، وإذا كان كذلك فهذا على ضربين :
أحدهما : أن يكون مدعي رقه هو الملتقط .
والضرب الثاني : أن يكون غيره من الأجانب ، فإن كان المدعي هو الملتقط ، فلا يخلو من أحد أمرين : إما أن تكون له بينة أو لا تكون ، فإن لم تكن له بينة كانت دعواه مردودة واللقيط على ظاهر الحرية لم يثبت عليه رق ويقر في يده مع ماله إن كان ولا ينزع منه ، وإن كان مدعيا له لما استحقه من كفالته بالالتقاط ، هذا الذي نقله
المزني في جامعه الكبير ، والذي أراه أولى أن انتزاعه من يده واجب : لأنه قد خرج بدعوى رقه من الأمانة في كفالته وربما صارت عليه استدامة يده ذريعة إلى تحقيق رقه ، وإن كانت له بينة فعلى ضربين :
أحدهما : أن تشهد له باليد ، فلا يحكم بها : لأن اليد شاهدة وليس يحكم بها للعلم بسببها فلم يكن للشهادة بها تأثير .
والضرب الثاني : أن تشهد البينة له بالملك ، فهذا على ضربين :
أحدهما : أن تصف سبب الملك على وجه يوجب الملك ، وذلك من أحد خمسة أوجه : إما ابتياع من مالك ، أو هبة قبضها من مالك ، أو ميراث عن مالك ، أو بسبي سباه فملكه ، أو ولدته
[ ص: 62 ] أمته في ملكه ، فإن كانت البينة على البيع أو الهبة أو الميراث أو السبي حكم فيها بشاهدين ، أو شاهد وامرأتين ، أو شاهد ويمين ، ولا يحكم بشهادة النساء منفردات ، وإن كانت الشهادة على أن أمته ولدته سمع فيه أربع نسوة يشهدن على ولادتها في ملكه ، وتكون شهادتين بملك الأم عند الولادة تبعا للشهادة بالولادة ، وإذا لم يكن في ملك الأم نزاع ، فإن نوزع في ملكه الأم لم تقبل شهادتان بملك الأم حتى يشهد بملكها شاهدان أو شاهد وامرأتان أو شاهد ويمين ، ثم إن شهدن بعد ذلك بولادتها في ملكه قبلن ، ولو شهد شاهدان أو شاهد وامرأتان بالملك والولادة فيه قبل ، فأما إن شهدت البينة بولادته من أمته ولم تشهد بأن الولادة كانت في ملكه ، فهذا مما لم يذكر فيه سبب ملكه : لأنه قد يجوز أن تكون أمه قد ولدته في ملك غيره ، فإذا ثبت هذا وشهدت البينة له بسبب الملك الموجب للملك حكم بها وصار عبدا له .
والضرب الثاني : أن تشهد البينة له بالملك ولا يذكر سبب الملك ، ففي وجوب الحكم بها قولان :
أحدهما : أنه يحكم بها ويجعل اللقيط عبدا له ولا يلزم أن يسألوا عن سبب الملك ، كما لو شهدوا بملك مال لم يذكروا سبب ملكه كان جائزا ، فكذلك في ملك اللقيط .
والقول الثاني : أن لا يحكم بهذه الشهادة في اللقيط حتى يذكروا سبب ملكه ويحكم بها في غيره من الأموال ، وإن لم يذكروا سبب ملكه والفرق بينهما من وجهين :
أحدهما : أن حكم اللقيط أغلظ من سائر الأموال لما فيه من نقله عن ظاهر حاله في الحرية إلى ما تشهد له البينة من الرق ، وليس كذلك سائر الأموال : لأنها مملوكة في سائر الأحوال . والثاني : أن اليد في الأموال تدل على الملك ، وفي اللقيط لا تدل على الملك ، فإن قيل : فيجوز للشهود في الأموال أن يشهدوا فيها بالملك باليد وحدها قيل : أما يد لم يقترن بها تصرف كامل فلا تجوز الشهادة بها في الملك ، وأما إذا اقترن بها تصرف فقد اختلف أصحابنا ، فحكى أبو علي الطبري في إفصاحه وجهين عن غيره ووجها ثالثا عن نفسه .
أحد الوجهين يجوز كما يجوز للحاكم ، والحكم أوكد من الشهادة .
والوجه الثاني : لا يجوز ذلك للشهود وإن جاز للحاكم : لأن للحاكم أن يجتهد وليس للشهود أن يجتهدوا .
والوجه الثالث الذي حكاه عن نفسه : أنه إن اقترن بمشاهدة اليد والتصرف سماع من الناس ينسبونه إلى ملكه جاز أن يشهدوا بالملك ، وإن لم يسمعوا الناس ينسبونه إلى ملكه لم يجز أن يشهدوا بالملك وشهدوا باليد .