فصل : وأما
ما لا ينفل من الدور والأرضين فحكمه عندنا
حكم الأموال المنفولة ، يكون خمسه لأهل الخمس ، وتقسم أربعة أخماسه بين الغانمين .
وقال
أبو حنيفة : الإمام في الأرضين مخير بين ثلاثة أشياء ، بين أن يقسمها على الغانمين ، أو يقسمها على المسلمين ، أو يقرها في أيدي أهلها المشركين بخراج يضربه عليها وجزية على رقاب أهلها ، تصير خراجا بعد إسلامهم لا تسقط عن رقابهم .
وقال
مالك : قد صارت بالغلبة وقفا على المسلمين . فأما
أبو حنيفة فاستدل بما روي عن
عمر بن الخطاب لما فتح أرض
السواد ، أراد أن يقسمه بين الغانمين ، فشاور
علي بن أبي طالب - رضوان الله عليهما - فقال دعها تكون عدة للمسلمين ، فتركها ولم يقسمها وضرب عليها خراجا وروي أنه لما فتحت
مصر وكان الأمير
عمرو بن العاص ، قال له
الزبير اقسمها بين الغانمين ، فقال : لا حتى أكتب إلى
عمر ، فكتب إليه فأجابه
عمر دعها حتى يغدو
[ ص: 406 ] فيهما حبل الحبلة ، ولأنه لما جاز أن يصالحهم على خراجها قبل القدرة ، جاز أن يكون مخيرا فيها بعد القدرة كالرقاب .
وأما
مالك فاستدل بقوله تعالى :
والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان [ الحشر : 15 ] ، فكان هذا الدعاء منهم لأجل ما انتقل إليهم من فتوح بلادهم التي استبقوها وقفا عليهم ، وبما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فتح
مكة عنوة فلم يقسمها وقسم غنائم
هوازن ولم يقسم أرضهم : فدل على أن الأرض تصير وقفا لا يجوز أن تقسم ، ولأن الغنائم كانت على عهد من سلف من الأنبياء تنزل نار من السماء تأكلها ؛ فأحلها الله تعالى بعدهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأمته ، والنار إنما تختص بأكل المنقول دون الأرضين فدل على اختصاص المنقول بالغنيمة المستباحة دون الأرضين .
والدلالة عليها عموم قوله تعالى :
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول [ الأنفال : 41 ] وروى
مجمع بن جارية nindex.php?page=hadith&LINKID=923693أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم خيبر بين الغانمين على ثمانية عشر سهما ؛ وذلك أن الغانمين كانوا ألفا وأربعمائة ، منهم مائتا فارس أعطى كل فارس ثلاثة أسهم ، فكان لهم ستمائة سهم ولألف ومائتي رجل ألف ومائتا سهم : صارت جميع السهام ألفا وثمانمائة سهم فقسمها على ثمانية عشر منهم وأعطى كل مائة سهما ، ولذلك روي
nindex.php?page=hadith&LINKID=923694أن عمر - رضي الله عنه - ملك مائة سهم من خيبر ابتاعها وقال لرسول الله إني قد أصبت ما لم أصب قط مثله وقد أحببت أن أتقرب إلى الله تعالى ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس الأصل وسبل الثمرة : فدلت قسمتها وابتياع
عمر لها لمائة سهم منها على أنها طلق مملوك ومال مقسوم .
وروي
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر على بني قريظة ، فقسم عقارهم من الأرضين والنخيل قسمة الأموال .
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
عصبة الله ورسوله فخمسها لله ورسوله ، ثم هي لكم مني إنما قربة ، ولأنه مال مغنوم ، فوجب أن يقسم كالمنفول ، ولأن ما استحق به قسمة المنفول استحق به قسمة غير المنفول كالميراث .
وأما الجواب عن استدلال
أبي حنيفة أن
عمر - رضي الله عنه - شاور
عليا - عليه السلام - في قسم
السواد ، فأشار عليه بالترك ، فهو أن
عمر - رضي الله عنه - قسم أرض
السواد بين الغانمين ، وأشغلوه أربع سنين ، ثم رأى أن الغانمين قد تشاغلوا به عن الجهاد : فاستنزلهم عنه فنزلوا : وترك
جرير بن عبد الله البجلي وأكثر قومه وكانت نخيله ربع الناس ، فأبت طائفة منهم أن
[ ص: 407 ] ينزلوا فعاوضهم عنه ، وجاءته
أم كرز فقالت : إن أبي شهد القادسية وإنه مات ، ولا أنزل عن حقي إلا أن تركبني ناقة زلولا عليها قطيفة حمراء ، وتملأ كفي ذهبا ، ففعل حتى نزلت عن حقها ، وكان قدر ما ملئ به كفها ذهبا نيفا وثمانين مثقالا . فلولا أن قسمة ذلك واجبة ، وأن أملاك الغانمين عليها مستقرة ؛ لما استنزلهم عنها بطيب نفس ومعاوضة . فلما صارت للمسلمين شاور
عليا فيها ، فقال : دعها تكون عدة لهم ، فوقفها عليهم وضرب عليها خراجا هو عند
الشافعي أجرة وعند
أبي العباس بن سريج ثمن . وأما أرض
مصر فبعض فتوحها عنوة وبعضها صلحا ، ولم يتعين نزاع
عمرو والزبير في أحدهما ولم يكن فيه دليل .
وأما الجواب عن قياسه عن الرقاب فهو أنه منتقض بالمنفول ، فإن
عمر صالح
نصارى العرب على مضاعفة الصدقة على مواشيهم وزروعهم وسائر أموالهم ؛ وكان ذلك خراجا باسم الصدقة ، ثم لا يمنع ذلك من وجوب قسمه في الغنيمة كذلك الأرضون ، ثم لو سلم من هذا النقص لكان المعنى في الرقاب أنها ليست في وقت خيار الإمام فيها مالا ، وإنما يصير بالاسترقاق مالا وليس للإمام بعد الاسترقاق خيار .
وأما الجواب عن استدلال
مالك بقوله تعالى :
والذين جاءوا من بعدهم [ الحشر : 10 ] ، فهو أن هذا منهم لم يتعين أنه للمعنى الذي ادعاه وقد يكون ذلك منهم لتمهيد الأرض لهم وإزالة المشركين عنهم ونصرة الدين بجهادهم ، ثم بما صار إليهم من بلاد الفيء ومواريث العنوة .
وأما الجواب عن فتح
مكة فهو أن
مكة فتحت عندنا صلحا ، فالكلام في فتحها يأتي ، وأما أرض
هوازن فلم تغنم لأن قتالهم لم يكن فيها ، وإنما قوتلوا بعد خروجهم منها إلى
حنين وأحرزوا أموالهم في
أوطاس ، فلما أظفر الله تعالى بهم وغنمت أموالهم وسبيت ذراريهم ، أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدلون إليه بحرمة الرضاع : لأن
حليمة مرضعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت من
هوازن ، وقالوا لو كنا ملحنا
للحارث بن أبي شمر ونزلنا معه منزلنا منك لوعى ذاك ، وأنت خير الكفيلين .
وقولهم ملحنا : أي : رضعنا ، وأنشد شاعرهم :
امنن علينا رسول الله في كرم فإنك المرء نرجوه وننتظر امنن على نسوة قد كنت ترضعها
إذ فوك تملؤه من محضها الدرر
فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923697اختاروا أموالكم أو ذراريكم ، فقالوا : خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا فنختار أحسابنا على أموالنا ، فقال : أما ما كان لي ولبني هاشم فلله ولكم ، وقال المهاجرون والأنصار : وأما ما لنا فلله ولرسوله ولكم فانكفوا إلى ديارهم التي لا تملك عليهم آمنين وقد أسلموا .
وأما الجواب عن استدلالهم بأكل النار المنفول دون الأرضين ، فكان هو المغنوم ، فهو
[ ص: 408 ] أنه استدلال ركيك وضعه
إسماعيل بن إسحاق القاضي ، ثم فيه دليل على أن الأرض لم تكن تحل للأنبياء من قبل ، فوجب أن تحل لنبينا - صلى الله عليه وسلم - لقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923698أعطيت ما لم يعط نبي من قبلي : أحلت لي الغنائم على أن النار لا تأكل الفضة ، والذهب . ولا يمنع ذلك من أن تكون غنيمة مقسومة كذلك الأرض .