فصل : فإذا تقرر توجيه القولين ، انتقل الكلام إلى التفريع عليهما ، فإذا
قيل بوجوب دفعها إلى الإمام وأن تفريق ربها لا يجوز ، فلا يخلو حال الإمام من أن يكون عادلا أو جائرا ، فإن كان الإمام عادلا فعلى رب المال أن يدفعها إلى الإمام ، أو إلى من استخلفه الإمام عليها من عماله وسعاته ، فإن كان الإمام والعامل حاضرين كان رب المال بالخيار في دفعها إلى أيهما شاء ، والأفضل أن يدفعها إلى الإمام لأنه أصل .
وإن
كان الإمام غائبا عن المال والعامل حاضرا فعلى رب المال أن يدفعها إلى
[ ص: 473 ] العامل وليس له أن يؤديها حتى يدفعها إلى الإمام ، وإذا دفعها رب المال إلى الإمام أو إلى عامله برئ رب المال منها وكانت يد الإمام ويد عامله سواء لنيابته عنه ، فإن هلك ذلك في يده كان تالفا لأهل السهمان من مال أهل السهمان ولم يضمنه إلا بالعدوان .
وإن كان الإمام جائرا لم يجز دفعها إليه : لأنه بالجور قد خرج من الأمانة ، وجاز لرب المال أن يفرقها بنفسه للضرورة ، فإن دفعها إلى الإمام الجائر لم يجز رب المال إلا أن يعلم وصولها إلى أهل السهمان ، ولا يكون الإمام الجائر نائبا عنهم ، فإن هلك المال في يده ، أو استهلكه بنفسه فعلى رب المال إخراجها ثانية ، سواء أخذها الإمام الجائر منه جبرا ، أو دفعها إليه مختارا .
وقال
أبو حنيفة : يجزئه أخذ الإمام الجائر لها سواء أخذها جبرا ، أو دفعها رب المال مختارا .
وقال
مالك : إن أخذها الإمام الجائر جبرا أجزأه وإن دفعها رب المال مختارا لم يجزئه .
واستدل من أجاز ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - :
السلطان يفسد ، وما يصلح الله به أكثر ، فإن عدل فله الأجر وعليكم ، وإن جار فله الوزر وعليكم الصبر ، فلما جعل وزر جوره عليه لم يجز أن يعود على غيره . وفي تكليف رد المال الإعادة يحتمل لوزره ، ولأن الإمام الجائر في استيفاء الحدود كالعادل ، فكذلك في الزكاة ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان :
أحدهما : أن من سقطت الحدود باستيفائه لها سقطت الزكاة بقبضه لها كالعادل .
والثاني : أن ما سقط باستيفاء الإمام العادل له سقط باستيفاء الإمام الجائر له كالحدود ، ولأن خيانة النائب لا تقتضي فساد القبض كالوكيل .
ودليلنا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "
أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله ، فلا طاعة لي عليكم " فجعل حدوث المعصية منه ، وإن كان من المعصية بعيدا رافعا لوجوب الطاعة . وإذا ارتفعت طاعة الوالي لجوره صار كغيره من الرعية التي لا تجزئ الزكاة بأخذهم لها . ويتحرر من اعتلال هذا الخبر قياسان :
أحدهما : أن من سقطت طاعته سقطت نيابته كالعاصي .
والثاني : أن من بطلت نيابته لم يصح قبضه كالوكيل ، ولأن الإمام يختص بتنفيذ الأحكام كما يختص باستيفاء الأموال ، فلما لم تنفذ أحكامه بجوره لم يصح استيفاؤه الأموال بجوره ، وتحريره أن
ما وقفت صحته على عدالة الإمام كان مردودا بجوره كالأحكام ؛ ولأن
[ ص: 474 ] إمامته تبطل بجوره كما تبطل بعزله وخلعه ، ثم ثبت أنه لو قبضها بعد خلع نفسه لم تقع موقع الإجزاء كذلك إذا قبضها بعد جوره .
وتحريره : أن ما أبطل إمامته منع من إجزاء قبضه كالخلع .
فأما الجواب عن استدلالهم بالخبر ، فمن وجهين :
أحدهما : اختصاص الوزر بالإمام دون الأحكام .
والثاني : أنه وإن لم يتعد وزره إلى غيره لم يتعد وزر غيره إليه ،
ورب المال مأخوذ بوزر زكاته حتى تصل إلى مستحقها فلم يسقط عنه وزرها لها .
وأما قياسهم على الحدود فهي من حقوق الله تعالى المحضة التي لا حق فيها لآدمي ، والمقصود بها الزجر الحاصل بعد الإمام وجوره ؛ ولذلك جوزنا لغير الإمام من سيد العبد والأمة أن يحدهما ، وليس كذلك الزكاة ؛ والمقصود بها وصولها إلى مستحقها ، وذلك بجور الإمام معدوم فافترقا .
وأما قياسهم على الوكيل فالمعنى في الوكيل أن وكالته لا تبطل بجنايته : فلذلك صح قبضه . والإمام تبطل ولايته بجوره فلذلك لم يصح قبضه .