الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : " فمن ذلك أن كل من ملك زوجة فليس عليه تخييرها وأمر عليه الصلاة والسلام أن يخير نساءه فاخترنه " .

قال الماوردي : وهذا صحيح ذكر الشافعي ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناكحه دون غيره لأمرين :

أحدهما : أنه كتاب النكاح فأورد ما اختص بالنكاح .

والثاني : أنه منقول عنه من " أحكام القرآن " فأورد منه ما نص الله تعالى عليه في القرآن ، فمن ذلك وهو ما خص به تغليظا أن الله تعالى أوجب عليه تخيير نسائه ، ولم يوجب ذلك على أحد من خلقه ، فقال تعالى : يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما [ الأحزاب : 28 ، 29 ] فاختلف أهل العلم فيما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، على قولين :

أحدهما : أنه خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن وبين اختيار الآخرة فيمسكهن ، ولم يخيرهن الطلاق . وهذا قول الحسن وقتادة .

والثاني : أنه خيرهن بين الطلاق أو المقام . وهذا قول عائشة ومجاهد ، وهو الأشبه بقول الشافعي .

واختلف أهل العلم في سبب هذا التخيير على خمسة أقاويل :

[ ص: 11 ] أحدها : أن نساءه تغايرن عليه ، فحلف أن لا يكلمهن شهرا ، فأمر بتخييرهن . وهذا قول عائشة .

والثاني : أنهن اجتمعن يوما ، وقلن : نريد ما تريد النساء من الثياب والحلي وطالبنه وكان غير مستطيع ، فأمر بتخييرهن ( حكاه النقاش ) .

والثالث : أن الله تعالى أراد امتحان قلوبهن ليرتضي رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساء خلقه ، فخيرهن .

والرابع : أن الله تعالى صان خلوة نبيه ، فخيرهن على أن لا يتزوجن بعده ، فلما أجبن إلى ذلك أمسكهن ، وهذا قول مقاتل .

والخامس : أن الله تعالى خير نبيه بين الغنى وبين الفقر ، فنزل عليه جبريل ، وقال : إن الله - تعالى - يقرئك السلام ، ويقول : إن شئت يا محمد جعلت لك جبالا ذهبا . فقال : صف لي الدنيا . فقال حلالها حساب ، وحرامها عذاب . فاختار الفقر على الغنى والآخرة على الدنيا ، وقال : لأن أجوع يوما فأصبر وأشبع يوما فأشكر خير من الدنيا وما فيها ، اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين . فحينئذ أمره الله تعالى بتخيير نسائه ، لما في طباع النساء من حب الدنيا ، فلما نزل عليه التخيير بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة - وكانت أحب نسائه إليه وأحدثهن سنا - فتلا عليها آية التخيير ، حتى تستأمري أبويك : لأنه خاف مع حبه لها أن تعجل لحداثة سنها فتختار الدنيا ، فقالت : أفيك يا رسول الله أستأمر أبوي ؟ ! قد اخترت الله ورسوله والدار الآخرة ، وسألته أن يكتم عليها اختيارها عند أزواجه ، فقال صلى الله عليه وسلم : ما كان النبي أن يغل ، ثم دخل على أزواجه ، فكان إذا دخل على واحدة منهن تلا عليها الآية ، تقول : ما اختارت عائشة ؟ فيقول : اختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، حتى دخل على فاطمة بنت الضحاك الكلابية وكانت من أزواجه ، فلما تلا عليها الآية فقالت : قد اخترت الحياة الدنيا وزينتها ، فسرحها ، فلما كان في زمن عمر وجدت تلقط البعر ، وهي تقول : اخترت الدنيا على الآخرة ، فلا دنيا ولا آخرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية