فصل : فإذا تقرر أن النكاح لا يصح إلا بشاهدين من الرجال دون النساء ، فلا يصح حتى يكونا عدلين .
وقال
أبو حنيفة : يصح بفاسقين استدلالا بأن حضورهما للعقد إنما هو حال ، فحمل الشهادة وعدالة الشهود إنما يراعى وقت الأداء لا وقت التحمل ، ألا ترى لو تحمل شهادة صبي ثم بلغ ، أو عبد ثم أعتق ، أو كافر ثم أسلم ، قبلت شهادتهم اعتبارا بحالهم وقت الأداء ، لا وقت التحمل كذلك شهادة الفاسقين في النكاح .
وتحريره : أنه تحمل شهادة على عقد ، فجاز أن يصح من الفاسقين قياسا على سائر العقود : ولأن من كان شرطا في عقد النكاح لم يراع فيه العدالة كالزوجين ، ولأنه لم يصح النكاح بشهادة عدوين لا تقبل شهادتهما على الزوجين صح أن تنعقد بشهادة فاسقين .
ودليلنا قوله تعالى :
فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل [ الطلاق : 2 ] فلما شرط
العدالة في الشهادة على الرجعة - وهي أخف - كان اشتراطها في النكاح المغلط أولى ، وروى
الحسن عن
عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=923852لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ورواه
ابن عباس وعائشة ، ولأن كل موضع وجبت فيه الشهادة اعتبرت فيه العدالة كالحقوق : ولأن كل نقص يمنع من الشهادة في الأداء وجب أن يمنع انعقاد النكاح بها كالرق والكفر ، ولأن كل ما لم يثبت بشهادة العبدين لم يثبت بشهادة الفاسقين كالأداء .
فأما استدلاله بأن حضور العقد حال تحمل لا يراعى فيه العدالة فخطأ : لأن الشهادة في عقد النكاح إن كانت تحملا فهي تجري مجرى الأداء من وجهين :
أحدهما : وجوبها في العقد كوجوبها في الأداء .
والثاني : أن يراعى فيه حرية الشهود وإسلامهم وبلوغهم ، كما يراعى في الأداء وإن لم تراع في تحمل غيره من الشهادات ، فكذلك الفسق .
وأما الجواب عن قياسه على فسق الزوجين : فهو أن العدالة تراعى في الشاهدين ، وإن لم تراع في العاقدين ، ولأنه لما روعي
حرية الشاهدين ، وإن لم يراع حرية الزوجين ، كذلك فسق الشاهدين .
وأما قياسه على شهادة العدوين : فمذهبنا في انعقاد النكاح بهما ما نذكره من اعتداد حالهما ، فإن كانا عدوين لأحد الزوجين دون الآخر انعقد النكاح بهما : لأن شهادتهما
[ ص: 61 ] في الأداء قد تقبل على من ليس له عدوان خلاف الفاسقين ، إذ لا تقبل شهادتهما لأحد الزوجين بحال ، وإن كانا عدوين للزوجين معا ، ففي انعقاد النكاح بهما وجهان لأصحابنا :
أحدهما : لا تنعقد كالفاسقين : لأن الأداء لا يصح منهما على أحد الزوجين بحال .
والوجه الثاني : هو ظاهر ما نص عليه
الشافعي في كتاب الأم : أن النكاح بهما منعقد ، وإن لم يصح منهما أداؤه بخلاف الفاسقين .
والفرق بينهما : أن الفاسقين لا يصح منهما أداء هذه الشهادة ، صح منهما أداء غيرها من الشهادات ، وهذا لو كان الشاهدان ابني الزوجين كانا كالعدوين : لأن
شهادة الولد لوالده مردودة ، كما أن
شهادة العدو على عدوه مردودة ، فإن كانا ابني أحد الزوجين انعقد النكاح بهما : لإمكان أداء الشهادة لأحدهما ، وإن كان أحدهما ابن الزوج ، والآخر ابن الزوجة ، ففي انعقاد النكاح بهما الوجهان الماضيان .
ومن أصحابنا من منع من انعقاد النكاح بكل حال ، وفرق بينهما وبين العدوين بأن فيهما بغضية لا تزول ، وليست كالعداوة التي قد تزول ، والله أعلم بالصواب .