فصل : وأما
أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا ، فليست الذمة المؤبدة إلا لأهل الكتاب ، فإن لم يترافعوا إلينا في أحكامهم تركوا ، وإن ترافعوا فيها إلينا ، فعلى ضربين :
[ ص: 307 ] أحدهما : أن يكونوا من أهل دين واحد ، ففي وجوب الحكم عليهم قولان :
أحدهما - وهو قوله في القديم - : أنه لا يجب ، والحاكم مخير في الحكم بينهم ، وهو إذا حكم عليهم مخيرون في التزام حكمه ، اعتبارا بأهل العهد : لعموم قوله تعالى :
فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم .
والقول الثاني - وهو قوله في الجديد ، واختاره
المزني - : أن الحكم بينهم واجب ، فيلزم الحاكم إذا ترافعوا إليه أن يحكم بينهم ، وعليهم إذا حكم أن يلتزموا حكمه ، وإذا
استعدى أحدهم على الآخر وجب أن يعديه الحاكم ، وأن يحضر المستعدى عليه ، فإن امتنع من الحضور أجبره وعزره ، وإنما كان كذلك بقول الله تعالى :
وأن احكم بينهم بما أنزل الله [ المائدة : 49 ] . وهذا أمر ، ولقوله تعالى :
حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [ التوبة : 29 ] .
قال أصحابنا : والصغار أن تجري عليهم أحكام الإسلام ،
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا ، فلو لم يلزمهم حكمه لامتنعوا من إقامة الحد عليهم ، ولأننا نجريهم بالدفع عنهم منا ومن غيرنا مجرى المسلمين ، فوجب أن ندفع عنهم بالحكم بينهم في استيفاء الحقوق لهم كما نحكم بين المسلمين ، وبهذا نفرق بينهم وبين المعادين ، لا يلزمنا أن ندفع عنهم غيرنا ، فلم يلزمنا أن نحكم بينهم ، ولا أن ندفع بعضهم عن بعض .
فأما
أبو حنيفة فلم يعمل بواحد من القولين على إطلاقه وقال : لا يحكم بينهم إلا أن يجتمعوا على الرضا بحكم الإمام ، فحينئذ يلزم الحاكم أن يحكم بين المترافعين إليه ، ويلزمهم أن يلتزموا حكمه .
والضرب الثاني : أن يكون
الحكم بين ذميين من دينين كيهودي ونصراني تحاكما إلينا ، فقد اختلف أصحابنا فيهم : فكان
أبو إسحاق المروزي يخرج وجوب الحكم بينهما على قولين ، كما لو كانا على دين واحد : لأن الكفر كله ملة واحدة .
وقال غيره من أصحابنا : أن يحكم بينهما قولا واحدا .
والفرق بين أن يكون من دين واحد أو دينين : أنهما إذا كانا من دين واحد فلم يحكم ، كان لهم حاكم واحد لا يختلفون فيه ، فأمكن وصولهم إلى الحق منه ، وإذا كانا على دينين
، اختلفا في الحكم إن لم يحكم بينهما حاكمنا ، فدعا النصراني إلى حاكم النصارى ، ودعا اليهودي إلى حاكم اليهود ، فتعذر وصول الحق إلا بحاكمنا ، فلذلك لزمه الحكم بينهما .