مسألة : قال
الشافعي : " فإن مات قبل أن يسمي مهرا أو ماتت فسواء ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي -
أنه قضى في بروع بنت واشق ونكحت بغير مهر ، فمات زوجها فقضى لها بمهر نسائها وبالميراث فإن كان يثبت فلا حجة في قول أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، يقال مرة عن
معقل بن يسار ، ومرة عن
معقل بن سنان ، ومرة عن بعض
بني أشجع ، وإن لم يثبت فلا مهر ولها الميراث . وهو قول
علي وزيد وابن عمر "
قال
الماوردي : أما
المفوضة إذا مات عنها زوجها قبل الدخول ، أو ماتت ، فإنهما يتوارثان بالإجماع ؛ لقول الله تعالى :
ولكم نصف ما ترك أزواجكم [ النساء : 12 ] . وهما زوجان لصحة النكاح بينهما .
فأما مهر مثلها : فقد اختلف قول
الشافعي في استحقاقه بالموت قبل الدخول على قولين :
أحدهما - وهو مذهب
أبي حنيفة - : أن لها مهر المثل .
وهو في الصحابة قول
عبد الله بن مسعود .
وفي التابعين : قول
علقمة ،
والشعبي .
وفي الفقهاء : قول
ابن أبي ليلى ،
وسفيان الثوري ،
وابن شبرمة ،
وأحمد ،
وإسحاق .
والقول الثاني - وهو مذهب
مالك - : لا مهر لها .
وهو في الصحابة قول
علي بن أبي طالب ،
وعبد الله بن عباس ،
وعبد الله بن عمر ،
وزيد بن ثابت ، رضي الله عنهم .
وفي التابعين : قول
جابر بن زيد ،
والزهري ،
وعطاء .
وفي الفقهاء : قول
ربيعة ،
والأوزاعي .
ودليل القول الأول - وهو مذهب
أبي حنيفة - : حديث
بروع بنت واشق : روى
قتادة عن
خلاس وأبي حسان ، عن
عبد الله بن عتبة بن مسعود :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924055أن رجلا تزوج امرأة فلم يسم لها صداقا ، ولم يدخل بها حتى مات ، فأتت عبد الله بن مسعود ، وكان قاضيا ، فاختلفوا إليه مرارا ، وقال : شهرا ، فقال : إن كان ولا بد فإني أفرض لها مهر نسائها ، لا وكس ، ولا شطط ، ولها الميراث ، وعليها العدة ، إن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه . فقال ناس من أشجع ، فيهم الجراح أبو سنان : نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاها فينا ، في بروع بنت واشق ، وكان زوجها هلال بن مرة الأشجعي بما قضيت .
وهذا حديث إن صح في
بروع ، لم يجز خلافه .
[ ص: 480 ] ومن طريق القياس : أن ما استقر به كمال المسمى استحق به مهر المثل في المفوضة كالدخول ، ولأن ما أوجبه عقد النكاح بالدخول أوجبه بالوفاة كالمسمى ، ولأنه أحد موجبي الدخول فوجب أن يستحق بالوفاة كالعدة .
ودليل القول الثاني ، وهو الأصح ، إن لم يثبت حديث
بروع : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
أدوا العلائق ، قيل : وما العلائق ؟ قال : ما تراضى به الأهلون . فدل على أن المستحق بالعقد ما تراضى به الأهلون دون غيره .
ومن طريق القياس : أنه فراق مفوضة قبل فرض وإصابة ، فلم يستحق به مهر كالطلاق ، ولأن الموت سبب يقع به الفرقة ، فلم يجب به المهر ، كالرضاع والردة ، ولأن من لم ينتصف صداقها بالطلاق لم يستفد بالموت جميع الصداق كالمبرئة لزوجها من صداقها ؛ لأن كل ما لم ينتصف بالطلاق لم يتكمل بالموت ، كالزيادة على مهر المثل .
فأما حديث
بروع فقد اختلف في ثبوته ، فذهب قول إلى ضعفه ، وأنه مضطرب غير ثابت من ثلاثة أوجه :
أحدهما : اضطراب طرقه ؛ لأنه روي تارة عن ناس من
أشجع ، وهم مجاهيل ، وتارة عن
معقل بن يسار ، وتارة عن
معقل بن سنان ، وتارة عن
الجراح بن سنان ، فدل اضطراب طرقه على وهائه .
والثاني : أن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنكره ، وقال : حديث أعرابي يبول على عقبيه ، ولا أقبل شهادة الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والثالث : أن
الواقدي ، طعن فيه ، وقال هذا الحديث ورد إلى
المدينة من
أهل الكوفة ، فما عرفه أحد من علماء
المدينة .
وذهب آخرون إلى صحة الحديث ؛ لاشتهاره ، وقبول
ابن مسعود له ، ووروده عن ثلاثة طرق صحيحة :
أحدها :
منصور بن إبراهيم ، عن
علقمة ، عن
ابن مسعود .
والثاني :
داود بن أبي هند عن
الشعبي ، عن
علقمة .
والثالث : عن
خلاس ،
وأبي حسان ، عن
عبد الله بن عتبة .
وليس اختلاف أسماء الراوي قدحا ؛ لأن
معقل بن يسار بن سنان مشهور في الصحابة ، وهو المنسوب إليه
نهر معقل بالبصرة تبركا باسمه حين اختفره زياد ؛ لأنه كان من بقايا الصحابة .
ومن كان بهذه المنزلة في بقايا الصحابة وجمهور التابعين لم يدفع حديثه .
[ ص: 481 ] وأما
الجراح أبو سنان ، فقد شهد بذلك مع قومه عند
عبد الله بن مسعود في قصة مشهورة . فما رد ولا ردوا .
وأما إنكار
علي رضوان الله عليه فقد كان له في قبول الحديث رأي أن يستحلف المحدث ، ولا يقبل حديثه إلا بعد يمينه ، وقال : ما حدثني أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا استحلفته إلا
أبو بكر ، وصدق
أبو بكر .
وهذا مذهب لا يقول به الفقهاء .
وأما
الواقدي ، فلم يقدح فيه إلا بأنه ورد من
الكوفة ، فلم يعرفه علماء
المدينة ، وهذا ليس بقدح ؛ لأنها من قضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبائل التي انتشر أهلها فصاروا إلى
الكوفة فرووه بها ثم نقل إلى
المدينة ، ومثل هذا كثير في الحديث ، فإن كان هذا الحديث غير صحيح ، فالمهر على قولين .
وإن صح فقد اختلف أصحابنا .
فذهب
أبو حامد المروزي وجمهور البصريين إلى وجوب المهر قولا واحدا ، وهو الظاهر من كلام
الشافعي .
وذهب
أبو علي بن أبي هريرة وجمهور البغداديين إلى أن وجوب المهر مع صحته على قولين ؛ لأنه قضية في عين يجوز أن يكون وليها فوض نكاحها ، فلم يصح التفويض ، أو تكون مفوضة المهر دون البضع ، فإن فرض لها مهر مجهول فلاحتماله مع الصحة كان على قولين .
وأما اعتبار الموت بالدخول : ففي الدخول إتلاف يجب به الغرم بخلاف الموت .
وأما اعتبار التفويض بالمسمى : فالمسمى يجب بالطلاق نصفه فكمل بالموت . والمفوضة لم يجب لها بالطلاق نصفه ، فلم يكمل لها بالموت جميعه .
وأما اعتبار المهر بالعدة : فقد تجب العدة بإصابة السفيه ، وإن لم يجب عليه مهر ، فكذلك الموت في المفوضة .
فصل : فإذا تقرر ما وصفنا ، فلا فرق بين أن تكون الزوجة مسلمة ، أو ذمية ، في أن
المهر إن وجب للمسلمة ، وجب للذمية . وإن سقط للمسلمة سقط للذمية .
وقال
أبو حنيفة : أوجب المهر للمسلمة ، وأسقطه للذمية ، وجعل ذلك مبنيا على أصله في أن
ثبوت المهر في النكاح حق لله تعالى ، وأهل الذمة لا يؤاخذون بحقوق الله ، ويؤاخذ بها المسلمون ، فلذلك سقط مهر الذمية ، لسقوطه من العقد ، ووجب مهر المسلمة لوجوبه في العقد .
وهذا فاسد ، بل المهر من حقوق الآدميين المحضة كالثمن في البيع ، والأجرة في الإجارة لاستحقاقه بالطلب وسقوطه بالعفو .
[ ص: 482 ] ولأنه لما كان استدامة ثبوته من حقوق الآدميين وجب أن يكون ابتداء ثبوته من حقوق الآدميين كسائر حقوق الآدميين طردا ، وكسائر حقوق الله عكسا ، ولأنه لو كان المهر من حقوق الله تعالى في النكاح كالولي والشاهدين لبطل النكاح بترك المهر ، كما بطل بترك الولي والشاهدين ، والله أعلم .