فصل : وإذا
قال الرجل لامرأته : أنا طالق منك ، كان كناية يقع به الطلاق إن نواه ، ولا يقع إن لم ينوه ، وكذلك لو
جعل إليها طلاق نفسها ، فقالت : أنت طالق مني كان كناية يقع بها الطلاق ، إن نوته ، ولا يقع إن لم تنوه ، وقال
أبو حنيفة : لا يقع بهما الطلاق إلا إذا
قال الزوج : أنا طالق منك ، ولا إذا
قالت الزوجة : أنت طالق مني ، ولو
قال الزوج : أنا بائن منك ، أو أنا حرام عليك ، قال
أبو حنيفة : يقع به الطلاق إن نواه ، واستدل
أبو حنيفة على ما خالفنا فيه بأن رجلا جعل أمر امرأته بيدها ، فطلقت زوجها ، فسأل
عبد الله بن عباس عن ذلك ، فقال : خطأ الله نؤها ، هلا طلقت نفسها ، إنما الطلاق لك عليها ، وليس لها عليك . ولأنه لما اختص اسم الطلاق بالزوجة دون
[ ص: 158 ] الزوج ، فقيل لها : إنها طالق ، ولم يقل للزوج : إنه طالق ، وجب أن يختص حكم الطلاق بالزوجة دون الزوج ، فتقع الفرقة بالطلاق عليها ولا تقع بالطلاق عليه ، لأن ثبوت الحكم يقتضي ثبوت الاسم ، وانتفاء الاسم يقتضي انتفاء الحكم كما أن انتفاء اسم الزوجية يوجب انتفاء حكمها وثبوت اسمها يوجب ثبوت حكمها ، قال : ولأن الزوج لو كان محلا لوقوع الطلاق عليه ، لكان صريح الطلاق فيه صريحا ، ولكان حكمه به متعلقا فلما انتفى عنه صريح الطلاق ، ولم تجب عليه العدة من الطلاق ، دل على أنه ليس بمحل للطلاق كالأجنبي ، ولأن قوله لزوجته : أنا طالق منك ، كقوله لعبده : أنا حر منك ، فلما لم يكن هذا عتقا ، لم يكن هذا طلاقا ، قال : ولأن الطلاق هو الإطلاق من الحبس ، والزوجة محبوسة عن الأزواج . فجاز أن يقع عليها الطلاق والزوج غير محبوس بها عن الزوجات ، لم يجز أن يقع عليه الطلاق .
ودليلنا ما روي عن
عبد الله بن مسعود ، سأل
عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن وقوع الطلاق على الزوج فقال
عمر : كيف ترى أنت ، فقال : أرى أنها واحدة ، وزوجها أحق بها ، فقال
عمر - رضي الله عنه - نعم ما رأيت ، فدل ذلك على إجماعهما على أن
وقوع الطلاق على الزوج كناية فيه ، ولأنه أحد الزوجين ، فجاز أن تقع الفرقة ، بوقوع الطلاق عليه كالزوجة ، ولأن ما صلح أن تقع به الفرقة إذا وقع على الزوجة ، جاز أن تقع به الفرقة إذا وقع على الزوج ، كالتحريم والبينونة ، ولأن من صح إضافة كناية الطلاق إليه صح إضافة صريحه إليه ، كالزوجة طردا وكالأجنبية عكسا .
والاستدلال من هذا الأصل هو : أن
صريح الطلاق أقوى من كنايته ، فلما وقعت الفرقة بكناية الطلاق في الزوج كان وقوعها بصريحه به أولى .
فأما استدلاله بحديث
ابن عباس ، فقد خالف
عمر وابن مسعود ، وقول الاثنين أقوى من قول الواحد . وأما استدلاله بانتفاء الاسم عن الزوج أوجب انتفاء حكمه فباطل بقوله : أنا بائن منك ، وحرام عليك ، على أن حكم الطلاق متعلق بكل واحد من الزوجين وإن اختص أحدهما بالاسم .
وأما استدلاله بأنه لما لم يكن صريح الطلاق فيه صريحا ولا وجب عليه العدة لم يكن محلا له . فالجواب عنه أنه لما لم يكن في حقيقته صريحا . لأن الصريح ما اقترن به عرف الاستعمال عندهم وعرف القرآن عندنا ولم يتناول جهة الزوج عرف الاستعمال وعرف القرآن ، فكان صريحا ، وقد تناوله في جهة الزوجة عرف الاستعمال وعرف القرآن فكان صريحا .
وأما العدة فهي الامتناع من الأزواج والزوجة ممنوعة من ذلك ، في حال الزوجية
[ ص: 159 ] فمنعت منه بعد الزوجية والزوج غير ممنوع منه في حال الزوجية ، فلم يكن ممنوعا منه بعد الزوجية .
وأما الاستدلال بقوله لعبده : أنا حر منك ، فقد اختلف أصحابنا هل يكون كناية عن عتقه أم لا ؟ على وجهين :
أحدهما : وهو قول
أبي علي بن أبي هريرة : يكون كناية في عتقه ، يعتق به إذا نواه ، فعلى هذا يسقط الاستدلال به .
والوجه الثاني : وهو قول
أبي إسحاق المروزي أنه لا يكون كناية ، ولا يعتق به ، فعلى هذا الفرق بينهما ، أن العتق إنما هو إزالة الرق ، والرق يختص بالعبد دون السيد فلم يصح العتق إلا أن يتوجه اللفظ إلى العبد دون السيد ، وليس كذلك الطلاق ، لأنه رفع الزوجية التي قد اشترك فيها الزوجان ، فجاز أن تقع الفرقة بوقوعها على الزوجين . وأما استدلاله بأن الطلاق هو إطلاق من الحبس ، وهذا مختص بالزوجة دون الزوج ففيه جوابان :
أحدهما : أن الطلاق هو الإطلاق من عقد النكاح والعقد متعلق بهما فجاز أن يكون الطلاق واقعا عليها .
والثاني : أنه وإن كان إطلاقا من حبس ، فهو محبوس بها عن نكاح أختها ، وخالتها وعمتها وعن نكاح أربع سواها ، كما كانت محبوسة عن غيره فجاز أن يقع الطلاق عليه ، لينطلق من حبس هذا التحريم كما وقع عليها ، فانطلقت من حبس التحريم والله أعلم .