فصل : وأما الفصل الثاني : وهو أن
وقوع الطلاق بالكنايات الظاهرة ، هل يكون رجعيا إذا لم يرد به ثلاثا ، فعندما يكون رجعيا إن أراد به واحدة أو اثنتين ، أو لم تكن له نية في عدده .
وقال
أبو حنيفة : يكون بائنا ، لا يملك فيه الرجعة استدلالا بأن قوله : أنت بائن لفظ يقتضي البينونة فوجب أن يقع الطلاق به بائنا كالثلاث ، ولأنه لا يخلو أن يعمل هذا اللفظ في وقوع الطلاق ، فيجب أن يقع على مقتضاه ، وإن لم يعمل تجردت النية عن لفظ عامل ، فيجب ألا يقع به طلاق .
ودليلنا حديث
ركانة بن عبد يزيد حين طلق امرأته
سهيمة البتة ، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عما أراد بـ " البتة " فقال : واحدة ، فأحلفه عليها ، وردها عليه ، فدل على أنها لا تكون ثلاثا . فخالف قول
مالك وتكون رجعية بخلاف قول
أبي حنيفة ، وروي أن
المطلب بن حنطب [ ص: 161 ] طلق امرأته البتة ، فقال له
عمر أمسك عليك زوجك ، فإن الواحدة لا تبت ، وهذا دليل عليهما ، وروي أنه قال : فإن الواحدة تبت ، يعني بانقضاء العدة إن لم يمسك .
وروي أن
التوأمة طلق امرأته البتة فقال
عمر : ما أردت قال : واحدة فاستحلفه ، فقال : أتراني أقيم على فرج حرام ، فأحلفه وأقره على نكاحه ، وليس يعرف
لعمر في هذا مخالف ، فكان إجماعا على مالك
وأبي حنيفة ، لأن
وقوع الطلاق إذا تجرد عن عدد وعوض ، كان رجعيا في المدخول بها ، قياسا على قوله : أنت طالق ، أو اعتدي أو استبرئي رحمك ، أو أنت واحدة ، فإن
أبا حنيفة وافق على هذه الأربع أنه يملك بها الرجعة ، ولأنها معتدة يلحقها الطلاق فوجب أن يملك رجعتها كالمطلقة بالصريح ، وبما ذكرنا من الكناية ، ولأن ما لا يتعلق بصريح الطلاق لم يتعلق بكنايته ، لتحريم الثلاث ، ولأن ما لم يمنع صريحه من الرجعة لم تمنع كنايته من الرجعة لقوله : أنت واحدة ، هو كناية أنت طالق .
ولأن صريح الطلاق من كنايته فلما لم يرفع الصريح الرجعة ، فأولى ألا ترفعها الكناية ، ولأنه لو
نوى بالطلاق صريح أنه بائن لم يرفع الرجعة ، فإذا تجرد لفظ البائن عن الصريح ، فأولى ألا يرفع الرجعة ، فأما استدلاله بأنه لفظ يقتضي البينونة ، فمنتقض بقوله : أنت طالق ولا رجعة لي عليك ، تكون طالقا وله الرجعة ، فلم يرتفع بهذا اللفظ ، وإن كان مقتضيا للبينونة ثم المعنى في الأصل الذي هو الثلاث ، استيفاء العدد ، وأما استدلاله بأنه إذا وقع به الطلاق وقع مقتضاه ، فمنتقض بلفظ الطلاق ، لأنه يقتضي طلاقا من جنسه ، وقد يكون رجعيا لا يخرج به من جنسه .