مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " ولا يلزم المغلوب على عقله إلا من سكر ( وقال في القديم ) في
ظهار السكران قولان أحدهما يلزمه والآخر لا يلزمه ( قال
المزني ) رحمه الله تعالى يلزمه أولى وأشبه بأقاويله ولا يلزمه أشبه بالحق عندي إذا كان لا يميز ( قال
المزني ) رحمه الله وعلة جواز الطلاق عنده إرادة المطلق ولا طلاق عنده على مكره لارتفاع إرادته، والسكران الذي لا يعقل معنى ما يقول لا إرادة له كالنائم فإن قيل لأنه أدخل ذلك على نفسه قيل أوليس وإن أدخله على نفسه فهو في معنى ما أدخله على غيره من ذهاب عقله وارتفاع إرادته ولو افترق حكمهما في المعنى الواحد لاختلاف نسبته من نفسه ومن غيره لاختلف حكم من جن بسبب نفسه وحكم من جن بسبب غيره فيجوز بذلك طلاق بعض المجانين، فإن قيل ففرض الصلاة يلزم السكران ولا يلزم المجنون قيل وكذلك فرض الصلاة يلزم النائم ولا يلزم المجنون فهل يجيز طلاق النوم لوجوب فرض الصلاة عليهم فإن قيل لا يجوز لأنه لا يعقل قيل وكذلك طلاق السكران لأنه لا يعقل قال الله تعالى :
لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فلم تكن له صلاة حتى يعلمها ويريدها وكذلك لا طلاق له ولا
[ ص: 419 ] ظهار حتى يعلمه ويريده وهو قول
عثمان بن عفان وابن عباس وعمر بن عبد العزيز ويحيى بن سعيد والليث بن سعد وغيرهم وقد قال
الشافعي رحمه الله تعالي إذا
ارتد سكران لم يستتب في سكره ولم يقتل فيه ( قال
المزني ) رحمه الله وفي ذلك دليل أن لا حكم لقوله لا أتوب لأنه لا يعقل ما يقول فكذلك هو في الطلاق والظهار لا يعقل ما يقول فهو أحد قوليه في القديم " .
قال
الماوردي : لا اختلاف بين الفقهاء أن
المجنون والمغمى عليه والنائم لا يقع طلاقهم ولا يصح ظهارهم ؛ فأما
السكران فله حالتان :
إحداهما : أن يكون سكره من غير معصية كمن شرب شرابا ظنه غير مسكر فكان مسكرا، أو أكره على شرب المسكر أو شرب دواء فأسكره فهذا كالمغمى عليه في أن لا يقع طلاقه ولا يصح ظهاره .
والحالة الثانية : أن يكون سكره بمعصية وهو أن يقصد شرب المسكر فيسكر .
فقد اختلف الناس في طلاقه وظهاره فمذهب
الشافعي في الجديد والقديم وما ظهر في جميع كتبه ونقله عنه سائر أصحابه غير
المزني أن طلاقه وظهاره واقع كالصاحي، ونقل
المزني عنه قولا ثانيا في القديم أن طلاقه وظهاره لا يقع فاختلف أصحابنا فيما نقله عنه فأثبته بعضهم قولا ثانيا لثقة
المزني في روايته وضبطه لنقله ونفاه الأكثرون وامتنعوا من تخريجه قولا ثانيا لأن
المزني وإن كان ثقة ضابطا فليس من أصحابه في القديم ، ومذهبه في القديم إما أن يكون مأخوذا من كتبه القديمة وليس فيها هذا القول، وإما أن يكون منقولا عن أصحاب القديم وهم
الزعفراني والكرابيسي وأبو ثور ،
وأحمد بن حنبل والحارث وابن سريج ، والقفال وأبو عبد الرحمن الشافعي ولم ينقل عن واحد منهم هذا القول، فلا يجوز أن يضاف إليه ، ويجوز أن يكون سمعه من بعض أصحاب القديم مذهبا له فوهم ونسبه إلى
الشافعي لأن
أبا ثور يرى ذلك مذهبا لنفسه ، فصار مذهبه قولا واحدا في الجديد والقديم أن
طلاق السكران وظهاره واقع وبه قال من الصحابة
عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ، وإحدى الروايتين عن
ابن عباس رضي الله عن جميعهم ومن التابعين
سعيد بن المسيب ،
والحسن وابن سيرين وسليمان بن يسار ومن الفقهاء
مالك بن أنس في أكثر
أهل المدينة والأوزاعي في أكثر
أهل الشام ، والنخعي ،
والثوري وأبو حنيفة في أكثر
أهل العراق .
وقال
المزني : طلاق السكران وظهاره لا يقع وبه قال من الصحابة
عثمان بن عفان رضي الله عنه وإحدى الروايتين عن
ابن عباس ومن التابعين
عمر بن عبد العزيز .
ومن الفقهاء
الليث بن سعد ، وداود بن علي ، وعثمان البتي وأبو ثور . واستدلوا
[ ص: 420 ] على أنه غير مأخوذ بطلاقه وظهاره كالمغمى عليه
بأن ماعزا أقر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالزنا فقال : لعلك لمست لعلك قبلت قال : لا قال : أبه جنة ؟ قيل : لا قال : " استنكهوه " ليعلم بذلك حال سكره من صحوه فلولا افتراق حكمه بالسكر والصحو لما كان لأمره بذلك تأثير . واستدل
المزني بما سنذكره . والدليل على وقوع طلاقه وظهاره مع عموم القرآن فيهما وما اجتمعت الصحابة عليه حين قال لهم
عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أرى الناس قد تتابعوا في شرب الخمر واستهانوا بحده فماذا ترون فقال
علي بن أبي طالب رضوان الله عليه أرى أن يحد ثمانين حد المفتري : لأنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فوافقوه جميعا على قوله وحده
عمر ثمانين بعد أن كان حده أربعين ، فكانت الزيادة إما تعزيرا أو حدا عند غيرنا ، وأيهما كان فقد أجمعوا على إثبات افترائه في سكره ، وثبوته لإجراء حكم الصاحي عليه وكذلك في طلاقه وظهاره ، ولأن وقوع طلاقه وظهاره تغليظ وسقوطهما تخفيف، والسكران عاص فكان بالتغليظ أولى وأحق من التخفيف ، ولأن
السكران متردد بين أصلين .
أحدهما : الصاحي ، والآخر : المجنون فكان إلحاقه بالصاحي لتكليفه ووجوب العبادات عليه وفسقه، وحده ومؤاخذته بردته وقذفه أولى من إلحاقه بالمجنون الذي لا تجري عليه هذه الأحكام .
فأما الجواب عما أمر به من استنكاه
ماعز فهو ليجعل سكره شبهة في درء الحد عنه لأن الحدود تدرأ بالشبهات وإن كان لقوله حكم .