فصل : فأما
المزني فإنه احتج لما ذهب إليه من
رد أفعاله وأقواله وإبطال طلاقه وظهاره بأربعة أشياء :
أحدها : علة جواز الطلاق عنده إرادة المطلق، ولا طلاق عنده على مكره لارتفاع إرادته، والسكران الذي لا يعقل معنى ما يقول لا إرادة له كالنائم فلم يصح طلاقه . وعن هذا ثلاثة أجوبة :
أحدها : أن علة طلاقه ما قدمناه على اختلاف أصحابنا فكان ما ادعاه ممنوعا .
والجواب الثاني : أن ما ادعاه من أن علة الطلاق إرادة المطلق خطأ فاسد لأن إرادة المطلق غير معتبرة في الصاحي باتفاق، ولو
طلق غير مريد وقع طلاقه ، فلم يجز أن تكون الإرادة علة لوقوع الطلاق ، وإنما لم يوقع طلاق المكره والنائم والمجنون لأن معهم علما ظاهرا هم يعذرون فيه يدل على خروجهم من أهل الإرادة وليس مع السكران علم ظاهر هو معذور فيه يدل على خروجه من أهل الإرادة .
والجواب الثالث : أن إرادة المطلق جعلها علة لإثبات الطلاق فلا يجوز أن تصير علة لإسقاطه : لأن علة الإثبات ضد علة الإسقاط ، وجمعه بين السكران والنائم لا يصح من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن النوم طبع في الخلقة لا يقدر على دفعه عن نفسه وليس كذلك السكر .
والثاني : أن العلم بالنوم مرفوع وليس كذلك السكر .
[ ص: 422 ] والثالث : أن النوم لا يتعلق به مأثم ويفيق وليس كذلك السكر .
فصل : والسؤال الثاني : قال
المزني : فإن قيل : لأنه أدخل ذلك على نفسه قيل : أوليس وإن أدخله على نفسه فهو كما في معنى ما أدخله عليه غيره من ذهاب عقله وارتفاع إرادته . وهذا الجمع خطأ من وجهين :
أحدهما : أنه معذور بما أدخله عليه غيره وليس بمعذور بما أدخله على نفسه، ولا يجوز أن يجمع بين حكم المعذور وغير المعذور .
والثاني : أنه يأثم بما أدخله على نفسه ولا يأثم بما أدخله عليه غيره ولا يجوز أن يجمع بين الإثم وغير الإثم . ثم قال
المزني : ولو افترق حكمهما في المعنى الواحد لاختلاف سببه من نفسه وغيره لاختلف حكم من جن بسبب نفسه وحكم من جن بسبب غيره، فيجوز بذلك طلاق بعض المجانين . والجواب عنه : أننا كذلك نقوله في الجنون والسكر لأنه إن
زال عقله بشرب سم أو دواء لا يخلو حاله فيه من أمرين : إما أن يكون عالما به أو غير عالم ، فإن كان غير عالم بأنه يسكر لم يقع طلاقه فقد استويا في أن طلاقهما مع عدم العلم بحالهما لا يقع ، وإن علم أن ما يتناوله من الدواء يسكر كما يعلم أن الشراب الذي يتناوله يسكر فهذا على ضربين :
أحدهما : أن تدعوه الضرورة إليه لأنه لا دواء له غيره فلا يكون بسكر هذا الدواء مؤاخذا ولا يقع طلاقه فيه وإن كان مثله في شرب المسكر شربه لدواء اتفق الطب على أنه لا دواء له غيره فقد اختلف أصحابنا في إباحة شربه له عند هذه الضرورة على وجهين :
أحدهما : أنه يصير مباحا له كغيره من الأدوية المسكرة من البنج وما جرى مجراه فعلى هذا لا يقع طلاقه كما لا يقع طلاق من سكر بغيره من الأدوية التي لا يجد منها بدا فقد استويا .
والوجه الثاني : أنه لا يكون مباحا وإن كان له فيه شفاء ؛ لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :
ما جعل شفاء أمتي فيما حرم عليها فعلى هذا يقع طلاقه ، والفرق بين سكر الشراب المسكر وبين سكر الدواء المسكر مع اشتراكهما في التداوي بهما من وجهين :
أحدهما : أن شرب المسكر في التداوي يدعو إلى شربه في غير التداوي لميل النفس إليه ، وليس شرب الدواء في التداوي بداع إلى شربه في غير التداوي لنفور النفس عنه .
والثاني : أن مع سكر الشراب لذة مطربة وليس مع سكر الدواء هذه اللذة المطربة فافترق السكران من هذين الوجهين :
[ ص: 423 ] والضرب الثاني : أن
يشرب الدواء المسكر قصد السكر من غير حاجة داعية إلى شربه ، ففي سكره فيه وجهان :
أحدهما : أنه ، كسكره من الشراب، يقع طلاقه فيه وظهاره فعلى هذا قد استويا .
والوجه الثاني : أنه لا يقع طلاقه بخلاف سكر الشراب وإن اشترك في المعصية للفرقين المتقدمين .
أحدهما : أن في سكر الشراب لذة مطربة تدعو إلى ارتكاب المحظورات وإثارة العداوات، وهذا المعنى معدوم في سكر الدواء .
والثاني : أن للنفس ميلا يدعو إلى سكر الشراب، فيبعث قليله على كثيره، وفي النفس نفور من سكر الدواء يبعث على مجانبته ولهذين الفرقين أوجبنا الحد في سكر الشراب ولم نوجبه في سكر الدواء، فلذلك أوقعنا الطلاق في سكر الشراب ، ولم نوقعه في سكر الدواء وجعلنا سكر الدواء كالجنون ولم نجعل سكر الشراب كالجنون ، وهكذا الجنون إن أدخله على نفسه من غير قصد فهو كالداخل عليه بغير فعله وإن أدخله على نفسه بقصده فعلى وجهين :
أحدهما : أنه يكون مؤاخذا بأحكامه وبطلاقه وبظهاره لمعصيته كالسكران .
والوجه الثاني : أنه لا يكون مؤاخذا بالأحكام ولا يقع طلاقه وظهاره بخلاف السكران لما قدمناه من الفرق بينهما وقد ذكر
المزني في مسائله المنثورة عن
الشافعي أن
رجلا لو نطح رجلا فانقلب دماغ الناطح والمنطوح ثم طلقا امرأتيهما أن طلاقهما لا يقع . يسوي بين الناطح والمنطوح في إبطال طلاقهما وإن كان الناطح عاصيا والمنطوح غير عاص .