فصل : فإن علم ذهاب عقله في حال من أحواله ، فلا يخلو حال القذف من أمرين :
إما أن تقوم به بينة أو لا تقوم ، فإن لم تقم به بينة لمن ادعى القذف ، فقال : كان هذا القذف مني وأنا ذاهب العقل ، أو
قال : قذفتك هذا القذف وأنا ذاهب العقل ، فالقول قوله مع يمينه ، لا يختلف ، ولا حد عليه قولا واحدا ، لأن جنبه حمى ، ولم يثبت عليه قذف يوجب الحد ، وإن قامت عليه بالقذف بينة ، فقال عند ثبوتها عليه : كنت عند قذفي هذا ذاهب العقل ، فلا يخلو من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن تشهد البينة بالقذف ، أنه كان صحيح العقل عند قذفه ، فالحد واجب عليه ، وليس لدعواه تأثير في سقوطه .
والحال الثانية : أن يقيم القاذف بينة أنه كان ذاهب العقل عند قذفه ، فيحكم بها إذا شهدت بذهاب عقله في قذف قذفها به ولم يسقط الحد عنه لجواز أن يكونا قذفين :
أحدهما : في صحة ، والآخر في مرض .
والحال الثالثة : أن لا يقيم المقذوف بينة على صحة عقله عند القذف ، ولا يقيم القاذف بينة على ذهاب عقله عند القذف ، ففيه قولان :
أحدهما : أن القول قول القاذف ولا حد عليه ، وهو الذي نص عليه
الشافعي :
[ ص: 23 ] لأن
وجوب الحد مشروط بصحة العقل وذلك محتمل ، فصارت شبهة في إدرائه .
والقول الثاني : أن القول قول المقذوف مع يمينه اعتبارا بالأصل في الصحة ، ويحد القاذف إلا أن يكون زوجا فيلاعن ، وهذا قول مخرج .
واختلف أصحابنا في تخريجه .
فقال
أبو حامد الإسفراييني : هو مخرج من اختلاف قوليه في قطع الملفوف في ثوب إذا ادعى قاطعه أنه كان ميتا ، وادعى وليه أنه كان حيا .
وقال
ابن سراقة : هو مخرج من اختلاف قوليه في اللفظ إذا قذف وادعى أنه عبد .
والفرق بين أن يقر بالقذف من غير بينة ويدعي فيه ذهاب العقل فيقبل قولا واحدا ، وبين أن يدعيه بعد قيام البينة عليه فلا يقبل في أحد القولين ، أن البينة قد تقررت بشهادة توجب الحد والإقرار له بتجرد عن دعوى تسقط الحد ، والحدود تدرأ بالشبهات بخلاف الحقوق ، والله أعلم .