الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " إذا أحاط العلم أن الولد ليس من الزوج ، فالولد منفي عنه بلا لعان " . قال الماوردي : وهذا صحيح ، ولد الحرة يلحق الزوج بشرطين : أحدهما : العقد . [ ص: 160 ] والثاني : الإمكان ، والإمكان يكون باجتماع شرطين : أحدهما : إمكان الوطء . والثاني : إمكان العلوق ، فأما إمكان الوطء ، فهو أن يكون اجتماعهما عليه مجوزا ، سواء علم أو لم يعلم ، فإن لم يكن اجتماعهما وأحاط العلم بأن لم يكن بينهما وطء لم يلحق به الولد ، وأما إمكان العلوق فيكون باجتماع شرطين : أحدهما : أن يكون الزوج ممن يولد لمثله ، فإن كان طفلا لم يلحق به الولد .

والثاني : أن تضعه بعد العقد لمدة يجوز أن يكون حادثا فيها بعد العقد وهي ستة أشهر فصاعدا ، فإن وضعته لأقل من ستة أشهر لم يلحق به للعلم بتقدمه على العقد ، فإذا ثبت ما ذكرنا من لحوقه بالعقد والإمكان لم يلحقه إذا استحال الإمكان .

وقال أبو حنيفة : إمكان الوطء غير معتبر وإنما يعتبر مع العقد إمكان العلوق ، فإن كان الزوج صغيرا أو ولدت بعد العقد لأقل من ستة أشهر لم يلحقه ، وإن كان الزوج كبيرا والولادة لستة أشهر لحق به الولد وإن علم أنهما لم يجتمعا ، حتى قال في ثلاثة مسائل حكاها الشافعي عنه في القديم : ما يدفعه المعقول منها فيمن تزوج في مجلس الحاكم وطلق فيه لوقته ثم ولدت لستة أشهر لا يزيد ولا ينقص ، أن الولد لاحق به ويجيء على أصله ما هو أضيق من هذا وأشنع ، وهو إذا قال لأجنبية : إذا تزوجتك فأنت طالق ثلاثا ، فإذا تزوجها طلقت عقب نكاحها ، فإن ولدت لستة أشهر لحق به ولدها ، ومنها قوله فيمن تزوج بكرا وغاب عنها قبل الإصابة ثم بلغها خبر موته فاعتدت وتزوجت ودخل بها الثاني سنين وجاءت منه بأولاد ثم قدم الأول لحق به جميع أولادها دون الثاني ، والأول منكر لم يطأ ، والثاني مقر قد وطئ .

ومنها قوله في رجل بالمشرق تزوج امرأة بالمغرب ، ثم ولدت لستة أشهر من عقده أن الولد لاحق به وإن كان لو أراد المسير إليها لم يصل إلا في سنين ، واستدل لصحة ذلك مع استحالته بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الولد للفراش وللعاهر الحجر " قال : والفراش هو الزوج ، وقال ذلك ابن الأعرابي ، وأبو عمر الزاهد وأنشد قول الشاعر :

باتت تعانقني وبات فراشها خلف العباءة بالدماء غريقا

يعني بقوله : بات فراشها ؛ أي زوجها ، قال : فجعل الولد للزوج من غير إمكان الوطء ، فاقتضى أن يكون له على عموم الأحوال ، قالوا : ولأن إمكان الفعل لا يقوم مقام الفعل ؛ لأن إمكان الزنا لا يقوم مقام الزنا ، وإمكان القتل لا يقوم مقام القتل ، كذلك [ ص: 161 ] إمكان الوطء لا يقوم مقام الوطء فبطل أن يكون معتبرا ، ولم يبق إلا اعتبار العقد ، فوجب أن يكون الولد معتبرا به .

قالوا : ولأن فرج الزوجة محل لماء الزوج ومستحقا له ، فوجب أن يكون أحق بما ينبت فيه كالأرض التي يستحق مالكها ما ثبت فيها ، قالوا : ولأنه يملك ماء زوجته كما يملك ماء أمته ، ثم ثبت أن ماء الأمة لو انعقد ولدا كان للسيد ، فوجب إذا انعقد ماء الزوجة ولدا أن يكون للزوج .

ودليلنا : هو أن كل ما استحال أن يكون منه امتنع أن يكون لاحقا به كزوجة الصغير ، وكالمولود لأقل من ستة أشهر ، فإن قيل : فالصغير من الأزواج لا يسمى فراشا والمولود لأقل من ستة أشهر حادث في غير ملكه ، فلذلك انتفى الولد عنهما وخالفهما ما عداهما ، قيل : أما الصغير فإن كان الفراش اسما للزوج فهو زوج ، فوجب أن يكون فراشا وإن امتنع من تسميته فراشا لاستحالته أن يكون الولد منه ، فمثل استحالته موجود في ولد المغربية من المشرقي ، وأما المولود لأقل من ستة أشهر ، فإن انتفى عنه لاستحالة وجود مائه في ملكه فكذلك ولد المغربية ، وإن كان لوجود الماء في غير ملكه بطل طرده بالصبي لوجود الماء في ملكه ولا يلحق به ، وبطل عكسه بالوطء لشبهة أو في نكاح فاسد يلحق به ، وإن كان في غير ملكه .

وإذا بطل طرده وعكسه لم يبق إلا أن يكون لاستحالة وجوده من مائه ، كذلك في هذه المسائل المستحيلة ، ولأن استحالة الاستلحاق يمنع من ثبوت النسب كالشاب إذا ادعى شيخا ولدا ولأنه لما انتفى عنه ولد الملاعنة تغليبا لصدقه ، وإن جاز أن يكون كاذبا فلأن ينتفي عنه الولد في هذه الأحوال مع استحالة كذبه والقطع بصدقه أولى . فأما الجواب عن قولهم : إن الفراش اسم للزوج ، فهو أن الفراش بالزوجة أخص ، لأن الفراش مشتق من الافتراش ، فكانت الزوجة أشبه بهذه الصفة من الزوج ، ألا ترى أن عبد بن زمعة قال : أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه .

فأقر على ذلك ولم ينكر عليه ، وما قال الشاعر فإنه مجاز واتساع ، وأما الجواب عن قولهم : إن إمكان الفعل لا يقوم مقام الفعل ، فهو أن إمكان الفعل وإن لم يقم مقام الفعل فهو معتبر عندنا وعندهم ؛ لأننا اعتبرنا إمكان الوطء ، واعتبروا زوجا أمكن أن يكون منه الوطء ، فكان اعتبارنا أولى من وجهين : أحدهما : أنه أعم من اعتبارهم . والثاني : أن لحوق الولد في اعتبارنا ممكن وفي اعتبارهم مستحيل . فأما الجواب عن قولهم : إن فرج المرأة ملك للزوج كالأرض فمن وجهين : [ ص: 162 ] أحدهما : أنه ليس بملك له ، وإنما يستبيح الاستمتاع به ، لأنها لو وطئت بشبهة كان المهر لها دونه . والثاني : أن مالك الأرض لا يملك ما زرعه غيره فيها فكذلك حكم الفروج ، وأما الجواب عن قولهم : إنه لما ملك ما انعقد من ماء أمته ملك ما انعقد من ماء زوجته ، فهو أنهم إن انقادوا إلى هذا الاستدلال كان عليهم لا لهم ؛ لأن الاختلاف في ثبوت النسب لا في ملك الرقبة ، وولد الأمة لا يلحق به فكذلك يقتضي أن يكون ولد الحرة ، وإنما يملك ولد الأمة استرقاقا ينتفي عن ولد الحرة ، فافترقا في ملك الولد ، واتفقا في نفي النسب والله أعلم بالصواب .

آخر كتاب اللعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية