الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله : قال الله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء قال : والأقراء عنده الأطهار والله أعلم بدلالتين بمولاهما : الكتاب الذي دلت عليه السنة والأخرى اللسان ( قال ) قال الله تعالى : إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وقال عليه الصلاة والسلام في غير حديث لما طلق ابن عمر امرأته وهي حائض : يرتجعها ، فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك وقال صلى الله عليه وسلم : إذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل عدتهن أو في قبل عدتهن

الشافعي شك ، فأخبر صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى أن العدة الأطهار [ ص: 164 ] دون الحيض وقرأ " فطلقوهن لقبل عدتهن " وهو أن يطلقها طاهرا ؛ لأنها حينئذ تستقبل عدتها ، ولو طلقت حائضا لم تكن مستقبلة عدتها إلا من بعد الحيض ، والقرء اسم وضع لمعنى ، فلما كان الحيض دما يرخيه الرحم فيخرج ، والطهر دما يحتبس فلا يخرج ، كان معروفا من لسان العرب أن القرء الحبس ، تقول العرب : هو يقري الماء في حوضه وفي سقائه ، وتقول : هو يقري الطعام في شدقه ، وقالت عائشة رضي الله عنها : " هل تدرون ما الأقراء ؟ الأقراء : الأطهار " وقالت : " إذا طعنت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه والنساء بهذا أعلم " وقال زيد بن ثابت وابن عمر : إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها ولا ترثه ولا يرثها ( قال الشافعي ) : والأقراء والأطهار والله أعلم ، ولا يمكن أن يطلقها طاهرا إلا وقد مضى بعض الطهر وقال الله تعالى : الحج أشهر معلومات وكان شوال وذو القعدة كاملين وبعض ذي الحجة ، كذلك الأقراء طهران كاملان وبعض طهر .

قال الماوردي : اختلف أهل اللغة فيما ينطلق عليه اسم القرء على أربعة أقاويل : أحدها : ينطلق على الحيض حقيقة ، ويستعمل في الطهر مجازا ؛ لأنه لا تسمى المرأة من ذوات الأقراء إلا إذا حاضت واستشهادا بقول الراجز :

يا رب ذي ضغن علي فارض له قروء كقروء الحائض

يعني أن نفوذ حقده كنفوذ دم الحيض .

والقول الثاني : أنه اسم ينطلق على الطهر حقيقة ، ويستعمل في الحيض مجازا ، لما ذكره الشافعي من أن القرء الجشم واستشهادا بقول الشاعر :

أفي كل عام أنت جاشم غزوة     تشد لأقصاها غريم عزائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة     لما ضاع فيها من قروء نسائكا

والقول الثالث : وهو قول أكثرهم أنه اسم مشترك ينطلق على الطهر حقيقة وعلى الحيض حقيقة ؛ كالأسماء المشتركة التي تقع على متضادين متعاقبين كالصريم : اسم الليل والنهار ، والناهل : اسم للعطشان والريان ، والمسحور : اسم للفارغ والملآن ، والحور : اسم لجميع الألوان ، والشفق اسم للحمرة والبياض ، والدلوك : اسم للزوال والغروب .

[ ص: 165 ] والقول الرابع : إنه اسم ينطلق على الانتقال من معتاد إلى معتاد فيتناول الانتقال من الحيض إلى الطهر ، والانتقال من الطهر إلى الحيض ، كما يقال : أقرأ النجم إذا طلع ، وأقرأ إذا غاب قال الشاعر :

إذا ما الثريا وقد أقرأت     أحس السما كان منها أفولا

ويقال : قرأت إذا انتقلت من شمال إلى جنوب أو من جنوب إلى شمال ، قال الشاعر :

كرهت العقر عقر بني شليل     إذا هبت لقارئها الرياح

وأما الفقهاء فقد اتفقوا على أن أقراء العدة أحد الأمرين من الحيض أو الطهر ، وإنما اختلفوا في مراد الله تعالى منها ، فقال أبو حنيفة : المراد بالأقراء الحيض دون الطهر ، وبه قال من الصحابة : عمر وعلي وابن مسعود وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم وحكاه الشعبي عن ثلاثة عشر من الصحابة ، ومن التابعين : الحسن البصري والشعبي .

ومن الفقهاء : الأوزاعي ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وأهل العراقين البصرة والكوفة . وقال الشعبي : الأقراء الأطهار : وبه قال من الصحابة : زيد بن ثابت ، وابن عمر ، وعائشة ، والقاسم بن محمد ، ومن الفقهاء : الزهري ، وابن أبي ذؤيب ، ومالك ، وربيعة ، وأبو ثور ، وحكى الزهري ، عن أبي بكر بن عمر ، وابن حزم : أنه قال : ما أجد أحدا من أهل المدينة في الأقراء خلافا لما قالته عائشة رضي الله تعالى عنها .

وقال أحمد بن حنبل : أنا أعلم فيها بقول زيد بن ثابت ، ثم قال : أنا لا أحسن أن أفتي فيها بشيء فتوقف . وتأثير هذا الاختلاف في حكم المعتدة أن من جعل الأقراء الأطهار قال : إن طلقت في طهر كان الباقي منه ، وإن قل قرءا ، فإذا حاضت وطهرت الطهر الثاني كان قرءا ثانيا ، فإذا حاضت وطهرت الطهر الثالث حتى برز دم الحيضة الثالثة كان قرءا ثالثا ، وقد انقضت عدتها .

وإن طلقت في الحيض ، فإذا برز دم الحيضة الرابعة انقضت عدتها . ومن قال : الأقراء : الحيض ، قال : إن طلقت في طهر أو حيض لم تعد بما طلقت فيه [ ص: 166 ] من الطهر والحيض ، وتنقضي عدتها بدخولها في الطهر الرابع ، واستدل من جعل الأقراء الحيض بقول الله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة : 228 ] فاقتضت الآية استيفاء ثلاثة أقراء ، ومن جعلها الأطهار ، لم يستوفها إذا طلقت في طهر وجعل عدتها منقضية بقرأين وبعض ثالث ، ومن جعل الحيض استوفاها كاملة فصار بالأطهار أخص ؛ لأنه لما تنقض الأقراء الثلاثة كما لم تنقض الشهور الثلاثة .

ثم قال عقيبه : ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن [ البقرة : 228 ] يعني ما تنقضي به العدة من حمل وحيض ، فدل على أن الأقراء المعتد بها هي الحيض وقوله تعالى : ( فطلقوهن لعدتهن ) [ الطلاق : 1 ] ولم يقل : في عدتهن ، والطلاق لها غير الطلاق فيها ، ومن جعل الأقراء الأطهار قد جعل الطلاق في العدة إذا طلقت في طهر ، ومن جعلها الحيض استقبل بها العدة فكان بالظاهر أحق ، وبقوله تعالى : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر [ الطلاق : 4 ] فنقلها عما يئست منه إلى بدله ، والبدل غير المبدل ، فلما كان الإياس من الحيض دل على أن الأقراء هي الحيض ، واستدلوا من السنة برواية مظاهر بن أسلم ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : طلاق الأمة طلقتان وعدتها حيضتان وهذا نص في الاعتداد بالحيض دون الطهر ، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لفاطمة بنت أبي حبيش : اقعدي عن الصلاة أيام أقرائك يعني : أيام حيضتك ، فكان ذلك أيضا قضاء على الحيض في الأقراء ، واستدلوا من الاعتبار بأن الإجماع منعقد على أن انقضاء العدة يكون بالحيض ؛ لأن من يجعلها الأطهار جعل عدتها متقضية بدخولها في الحيض ، ومن جعلها الحيض جعل عدتها متقضية بخروجها من الحيض ، فقاسوا الطرف الأول على الطرف الثاني فقالوا : أحد طرفي العدة فوجب أن يكون حيضها الثاني .

قالوا : ولأن العدة إذا انقضت بخروج كامل وقت انقضائها على انفصال جميعها كالحمل لا ينقضي بخروج بعضه ، كذلك بالحيض الأخير لا ينقضي العدة بخروج بعضه حتى يستكمل .

قالوا : ولأن مقصود العدة يراد براءة الرحم عن الحمل ، وذلك يكون بالحيض دون الطهر ، فكان اعتبار الأقراء بما يرى أولى من اعتبارها بما لا يرى ، ولأن موضوع العدة الاستبراء في الحرة والأمة ، ثم ثبت أن استبراء الأمة بالحيض دون الطهر ، فكذلك الحرة ؛ لأن الاعتداد بالأقراء عند فقد الحمل فكانت بدلا منه ثم ثبت أن الاعتداد [ ص: 167 ] للحامل بخروج ما في البطن ، فاعتداد ذات الأقراء يجب أن يكون بخروج ما في البطن وهو الحيض دون الطهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية