فصل : فإذا تقرر ما ذكرنا من القولين تفرع الحكم عليهما ، فإذا قيل بالأول منهما أنها تتربص بنفسها أربع سنين ، ثم تعتد عدة الوفاة فإنما تقدرت
مدة التربص بأربع سنين : لأنها مدة أكثر العمل الذي يتحقق فيه براءة الرحم ، ثم ألزمت عدة الوفاة لأمرين : أحدهما : أن الأغلب من حال المفقود موته فلم يحتج إلى طلاق ، فإن قيل فقد أمر
عمر ولي المفقود أن يطلق ، قيل لجواز أن يكون فعل ذلك استظهارا ؛ لأن المحكوم بموته لا تقف فرقة زوجته على طلاق غيره . والثاني : أن ما سوى عدة الوفاة استبراء ؛ لأنها لا تجب على غير مدخول بها ، وقد استبرأت هذه نفسها بأربع سنين فلم تحتج إلى الاستبراء ، وألزمت عدة الوفاة إحدادا ، وإذا كان كذلك
فأول مدة التربص من وقت حكم الحاكم لها بالتربص . وبه قال
الأوزاعي : وقال
أحمد بن حنبل : أولها من وقت الغيبة ، وهذا فاسد من وجهين : أحدهما : أن
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمرها بالتربص من وقت قضائه والعمل فيها على قوله . والثاني : أنها مدة تقدرت باجتهاد فاقتضى أن تتقدر بالحكم كأجل العنة ، وخالفت مدة الإيلاء المقدرة بالنص ، فإذا انقضت المدة بعد حكم الحاكم بها وتقدرها ، فهل يكون ذلك حكما بوفاته أم يحتاج إلى استئناف حكم : على وجهين محتملين : أحدهما : أن ما تقدم من الحكم بتقدير المدة حكم بالموت بعد انقضاء تلك المدة ؛ لأنه مقصود التقدير ، فعلى هذا إذا انقضت تلك المدة لم يلزمها معاودة الحاكم ، وصارت داخلة في العدة بعد انقضائها ، فإذا اقتضت عدتها حلت . والوجه الثاني : وهو أظهر أنه لا يكون الحكم بتقدير المدة حكما بالموت بعد انقضائها حتى يحكم لها الحاكم بموته : لأن
عمر رضي الله تعالى عنه استأنف حكمها بعد انقضاء المدة : ولأن الحكم بأجل العنة لا يكون حكما بالفرقة حتى يحكم بها الحاكم ، كذلك الحكم بأجل الغيبة ، فعلى هذا لا تدخل في العدة بعد انقضاء المدة إلا بأن يحكم لها الحاكم بموته فتقع الفرقة لما حكم به من الموت ، ثم تدخل بعد حكمه في العدة وتحل حينئذ بانقضاء العدة ، فإذا حكم بالفرقة على ما وصفنا فقد اختلف أصحابنا في وقوعها ظاهرا وباطنا على وجهين : أحدهما : أنها تقع ظاهرا وباطنا حتى إن قدم الزوج حيا لم يبطل به النكاح .
[ ص: 319 ] والثاني : لأن للحاكم مدخلا في إيقاع الفرقة بين الزوجين . والوجه الثاني : أنها تقع في الظاهر دون الباطن فإن قدم الزوج حيا بطل نكاح الثاني ؛ لأن حكم الحاكم لا يحيل الأمور عما هي عليه ، وفعل
عمر رضي الله تعالى عنه حين خير الأول يدل على احتمال الوجهين ، فهذا حكم القول الأول ، وإذا قيل بالقول الثاني إنها باقية على الزوجية ومحبوسة على نكاحه حتى يعرف يقين موته ، وهو الصحيح الذي يعمل عليه فإن
نكحت قبل مدة التربص أو بعدها كان نكاحها باطلا ، وعلى هذا لو حكم لها الحاكم بالمدة قضى بعد انقضائها بالفرقة ففي نقض حكمه وجهان : أحدهما : لا ينقض لنفوذه عن اجتهاد مسوغ وخلاف منتشر . والوجه الثاني : أن حكمه ينقض ، وقضاءه يرد ؛ لأن المروي من رجوع عمر رضي الله تعالى عنه قد رفع الخلاف وعقد الإجماع ، ولأن القياس فيهما قوي لا يحتمل خلافه ، والله أعلم .