الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو رضع منها بعد موتها لم يحرم ؛ لأنه لا يحل لبن الميتة " . قال الماوردي : وهو كما قال ، إذا ارتضع المولود من لبن الميتة الحاصل من ثديها بعد موتها لم يثبت به التحريم . وقال أبو حنيفة ، ومالك : يثبت به التحريم كارتضاعه في حياته استدلالا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : الرضاعة من المجاعة . وقـوله صلى الله عليه وسلم : الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم ، وهذا المعنى موجود في لبن [ ص: 377 ] الميتة كوجوده في لبن الحية ؛ ولأنه لبن آدمية وصل إلى جوفه في زمان التحريم فوجب أن يتعلق به التحريم كما لو شربه في حياتها . ولأنه لبن لو وصل إلى جوفه في حياتها ثبت به التحريم فوجب أن يثبت به التحريم إذا وصل إلى جوفه بعد موتها كالمحلوب منها في حياتها ؛ ولأنه سبب ثبت به التحريم المؤبد . فاستوى وجوده في الحياة وبعد الوفاة كالولادة ؛ ولأنه ليس في موتها أكثر من سقوط فعلها ، وهذا لا يؤثر في تحريم الرضاع كما لو ارتضع منها في نومها ؛ ولأن لبنها ما مات بموتها فوجب أن لا يسقط به التحريم . ودليلنا قول النبي صلى الله عليه وسلم الحرام لا يحرم الحلال وهذا اللبن محرم لنجاسة عينه ، فلم يثبت به تحريم ما كان حلالا من قبله ؛ ولأن ما تعلق به تحريم النكاح ينتفي من حدوثه بعد الموت كالنكاح ؛ ولأن الرضاع ثبت تحريم المصاهرة كالوطء بشبهة ، فلما كان الموت مانعا من ثبوت التحريم بالوطء ؛ لأنه لو وطئ الميتة بعد موتها معتقدا أنها في الحياة لم يثبت بوطئه التحريم كذلك ارتضاع لبن الميتة . وتحريره أن ما ثبت به التحريم إذا اتصل بحياتها زال عنه التحريم إذا اتصل بموتها كالوطء ؛ ولأن تحريم الرضاع متعلق بانفصاله من ثدي الأم ووصوله إلى جوف الولد ، فلما كان وصول اللبن إلى الولد بعد موتها مانعا من ثبوت التحريم وجب أن يكون انفصاله بعد موت الأم مانعا من ثبوت التحريم . وتحريره أنه أحد جهتي التحريم فوجب أن يمنع الموت من ثبوت التحريم كالولد ؛ ولأن الموت لما أسقط حرمة وطئها وجب أن يسقط حرمة لبنها كالزنا ؛ ولأن الرضاع كالجناية لما يتعلق به من ضمان التحريم ، والميت لا يثبت حكم الجناية في حقه ، وإن ثبت في حق النائم والمجنون ، ألا ترى أن ميتا لو سقط على رجل فقتله لم يضمنه ، ولو سقط عليه نائم أو مجنون ضمنه ولا يدخل على هذا حافر البئر إذا حدثت بها جناية بعد موته لوجود الحفر منه في حياته ، وإذا سقط بالموت حكم الجناية سقط بها حكم الضمان . ولأن لبن الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم ، ولهذا المعنى لم يثبت رضاع الكبير ، ولبن الميتة داء لا ينبت به اللحم ولا ينتشر به العظم فلم يثبت به التحريم ، وبهذا المعنى يجاب عن استدلالهم بالخبرين . وبمثله يجاب عن قياسهم على شربه في حياتها أن لبن الحية ينبت اللحم وينشز العظم . [ ص: 378 ] وجواب ثان في معنى الأصل أنها حال لو وطئت فيها لم يثبت به تحريم المصاهرة ، فيثبت به تحريم الرضاع ، والوطء بعد الموت لا يثبت به تحريم المصاهرة ، فلم يثبت به تحريم الرضاع . والجواب عن قياسهم على الولادة فهو أن لحوق النسب بالعلوق ، وإنما يستقر حكمه وتتحقق حاله بالولادة بعد تقدم ثبوته بعلوقه ، ألا ترى أنه يرث ويورث قبل ولادته ويضمن ديته جنينا . والجواب عن استدلالهم بأن سقوط فعلها لا يؤثر في تحريم الرضاع كالنائمة فهو ما قدمناه من أن الميت لا يضاف إليه فعل ، ويضاف إلى النائم والمجنون فافترقا ، وقولهم : إن لبنها لم يمت فهو وإن لم تحله حياة تبع لما فيه حياة فجرى عليه حكمها ، وزال عنه الحكم لعدمها ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية