الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو تزوج امرأة في عدتها فأصابها ، فجاءت بولد فأرضعت مولودا كان ابنها وأري المولود القافة فبأيهما ألحق لحق ، وكان المرضع ابنه وسقطت أبوة الآخر " . قال الماوردي : وصورتها في امرأة تزوجت في عدتها ووضعت ولدا أرضعت بلبنه طفلا فالمرضع تابع للمولود ، وللمولود أربعة أحوال : [ ص: 394 ] أحدها : أن يلحق بالأول دون الثاني فيتبعه المرضع ، ويكون للأول دون الثاني . والحال الثانية : أن يكون المولود يلحق بالثاني دون الأول ، فيتبعه المرضع ، ويكون ابنا للثاني دون الأول . والحال الثالثة : أن ينتفي المولود عن الأول والثاني فيتبعه المرضع ، وينتفي عن الأول والثاني ، وذكر بعض أصحابنا أن إلحاق المرضع بالأول لثبوت لبنه كما لو لم تلد المرضعة ، وهذا ليس بصحيح ؛ لأن لبن الولادة قاطع لحكم ما تقدمه ، فإذا انتفت الولادة عن كل واحد منهما فأولى أن ينتفي الرضاع عنهما . والحال الرابعة : أن يمكن لحوق المولود بكل واحد منهما فيرى المولود للقافة فإن ألحقوه بالأول لحق به وتبعه المرضع ، وإن ألحقوه بالثاني لحق به ، وتبعه المرضع وإن أشكل على القافة أو عدموا وقف المولود إلى زمان الأنساب ، فإذا انتسب إلى أحدهما لحق به وتبع المرضع ، وإن مات قبل الانتساب ، وكان له ولد قام ولده مقامه في الانتساب ، فإذا انتسب إلى أحدهما لحق به وتبعه المرضع ، وإن لم يكن له ولد صار ثبوت النسب من جهة المولود معدوما . وقال الشافعي : " ضاع نسبه " ومعناه : ضاع النسب الذي يثبت به النسب ، وإذا كان كذلك ففي المرضع ثلاثة أقاويل : أحدها : أن يكون ابنا لهما جميعا بخلاف المولود ؛ لأنه لا يجوز أن يكون للمولود أبوان من نسب ؛ لأنه لا يخلق إلا من ماء أحدهما ، ويجوز أن يكون له أبوان من رضاع ؛ لأنه قد يرتضع من لبنهما ويكون غذاء اللبن لهما ، وإن كان الولد لأحدهما ؛ لأن اللبن قد يحدث بالوطء تارة ، وبالولادة أخرى فلذلك صار المرضع ابنا لهما ، وفي هذا القول ضعف من وجهين : أحدهما : أنه لو صار ابنا لهما بموت الولد لما جاز أن ينقطع عنه أبوة أحدهما بحياة الولد . والثاني : أن نزول اللبن إنما يضاف إلى الواطئ بالولادة لا بالوطء ؛ لأنه لو نزل لها بوطئه لبن فأرضعت به ولدا لم يصر ابنا للزوج حتى تلد منه ، فيصير اللبن له ، والمرضع به ابنا له ، فهذا قول . والقول الثاني : أن المرضع ينسب إلى أحدهما ، كما كان المولود ينسب إلى أحدهما ؛ لأنه تابع له فجرى عليه حكمه . فإن قيل : إنما انتسب المولود ؛ لأن الطبع جاذب ، والشبه غالب ، وهذا مفقود في [ ص: 395 ] المرضع ؛ ولذلك رجع إلى القافة في المولود ، ولم يرجع إليهم في المرضع . قيل : قد يحدث الرضاع من شبه الأخلاق مثل ما تحدثه الولادة من شبه الأجسام والصوت ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تسترضعوا الحمقى فإن اللبن يغذي . وقال صلى الله عليه وسلم : أنا أفصح العرب بيد أني من قريش ، وأخوالي بنو زهرة وارتضعت في بني سعد . ورأى عمر بن الخطاب رجلا ، فقال : أنت من بني فلان ؟ قال منهم رضاعا لا نسبا فأضافه إليهم بشبه الأخلاق كما تضيفه القافة بشبه الأجسام ، ولم يعول على القافة في إلحاق المرضع ، وإن عول عليهم في إلحاق المولود ؛ لأن شبه الأجسام والصور أقوى بظهوره ، وشبه الأخلاق والشيم أضعف لحقا به . والقول الثالث : أنه ينقطع عنه أبوة كل واحد منهما ولا خيار له في الانتساب إلى أحدهما ؛ لأن الأنساب تثبت من ثلاثة أوجه : بالفراش ، ثم القافة ، ثم الانتساب ، فلما لم يكن في الرضاع فراش ، ولم يثبت بالقافة لم يثبت بالانتساب وإن ثبت به النسب لأمرين : أحدهما : أن النسب لا يقع فيه اشتراك فجاز أن يعول فيه على الطبع الحادث ، ويقع في الرضاع اشتراك فعدم فيه الطبع الحادث . والثاني : أن امتزاج النسب موجود مع أصل الخلقة ، والرضاع حادث بعد استكمال الخلق واستقرار الخلق ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية