فصل : فأما
نفقة من تبعضت فيه الحرية والرق فكان نصفه حرا ونصفه مملوكا فمذهب
الشافعي أن نفقته نفقة المعسر ما لم تكمل حريته فيلزمه لزوجته مد واحد ، وإن كان موسرا بما فيه من الحرية . وقال
المزني : إذا كان موسرا بما فيه من الحرية تبعضت النفقة بقدر الحرية والرق فيلزمه بنصفه المملوك نصف نفقة معسر وذلك نصف مد وبنصفه الحر نصف نفقة
[ ص: 452 ] موسر وذلك مد فيصير عليه لزوجته مد ونصف ، استدلالا بثلاثة أمور : أحدها : أن
الشافعي قد أوجب عليه في كتاب الأيمان أن يكفر بالإطعام دون الصيام إثباتا لحكم الحرية ؛ فكذلك في النفقة . والثاني : أنه لما كان في زكاة الفطر ملتزما لنصف زكاته بنصف حريته وللسيد نصفها بالنصف من رقه ولم يغلب حكم الرق في إسقاطها عنه ؛ كذلك في النفقة . والثالث : أنه لما كان موروثا إذا مات بقدر حريته ولم يسقط الميراث تغليبا لرقه وجب أن يكون في النفقة بمثابته . وهذا الذي ذهب إليه
المزني فاسد من وجهين : أحدهما : أنه في أحكام الزوجية يغلب حكم رقه على حريته ، فلا يملك من الطلاق إلا اثنتين ولا ينكح إلا في زوجتين ، وكذلك في النفقة يغلب حكم الرق ، ولو جاز أن تتبعض النفقة بقدر حريته ورقه حتى يلتزم مدا ونصفا ، لملك من المنكوحات ثلاثا : واحدة بنصفه المسترق ، واثنتين بنصفه المعتق ، وفي إبطال هذا وتغليب حكم الرق دليل على إبطاله في النفقة تغليبا لحكم الرق . والثاني : أن أصول الشرع في تبعيض أحكام الحرية والرق تنقسم ثلاثة أقسام : أحدها : ما غلب فيه حكم الرق على الحرية : وهو الحدود والميراث والطلاق . وأعداد المنكوحات وزكاة المال ، وسقوط فرض الحج والجمعة . فيجري عليه فيها أحكام من رق جميعه . والثاني : ما تغلب فيه الحرية على الرق وذلك ستر العورة في الصلاة على أظهر الوجهين ، وكالإطعام في الكفارة على ما سنذكره من الخلاف فيه . والثالث : ما يتبعض حكمه بحسب الحرية والرق وذلك الكسب والنفقة وزكاة الفطر ، وإذا اختلفت فيه أصول الشرع كانت نفقات الزوجات محتذية إلى أحد الأصول إلا بدليل . فلم يجز أن يرد إلى ما يغلب فيه حكم الحرية لأمرين : أحدهما : قلة أحكامه وضعف شواهده . والثاني : انعقاد الإجماع على خلافه ، ولم يجز أن يرد إلى ما يتبعض حكمه لأمرين : أحدهما : أنه من أحكام الزوجية وهي لا تتبعض فيما عدا النفقة ؛ فكذلك في النفقة .
[ ص: 453 ] والثاني : أن نفقة الزوجية لا تتبعض ؛ لأنها لا تجب على زوجين فوجب ألا تتبعض باختلاف الحكمين ، فلم يبق فيها عن الأقوال إلا أن يغلب فيها حكم الرق مع كثرة أحكامه وقوة شواهده ، فأما استشهاده بما نص عليه
الشافعي في إطعامه في الكفارة فقد اختلف أصحابنا في الجواب عن نصه على ثلاثة أوجه : أحدهما : أنه قال ذلك على مذهبه في القديم : أن العبد يملك إذا ملك فصار بالتمليك في حكم من عتق جميعه . فأما على قوله في الجديد : إنه لا يملك إذا ملك فلا يكفر إلا بالصيام . والثاني : أن السيد يحمل عنه الكفارة فلم يجز أن يكفر عنه إلا بالإطعام دون الصيام : لأن الصيام لا يصح فيه التحمل ويصح في الإطعام . والثالث : أن يغلب فيه حكم الحرية على الأحوال ، لأنه لما لم يجز أن يتبعض بخروجه عن المنصوص عليه في الكفارة ووجب رده إلى تغليب أحد الأمرين كان تغليب الحرية فيه أولى من تغليب الرق ؛ لأن من فرضه الإطعام لا يجوز أن يكفر بالصيام ، ويجوز لمن فرضه الصيام أن يكفر بالإطعام ، وهذا يمنع من رد نفقات الزوجات إلى التبعيض ويوجب تغليب أحد الحكمين وهو بخلاف ما قاله
المزني فلم يصح استشهاده به . وأما استشهاده بزكاة الفطر في تبعيضها فيدفعه زكاة المال في تغليب الرق في إسقاطها ، ثم الفرق بين زكاة الفطر ونفقة الزوجة أن زكاة الفطر تتبعض في التزام الشركاء لها ، ونفقة الزوجية لا تتبعض لاستحالة أن يتحملها زوجان مشتركان ، وأما استشهاده بأنه يتبعض في ميراث ما له ، فالجواب عنه أن
الشافعي لم يختلف قوله إنه لا يرث واختلف قوله هل يورث على قولين : أحدهما : وهو قوله في القديم ، وبه قال
مالك : إنه لا يورث ، ويكون جميع ما له لسيده تغليبا لحكم الرق ، فعلى هذا يسقط الاستشهاد به . والثاني : وهو قوله في الجديد : أنه يورث بقدر حريته وإن لم يرث بها ؛ لأنه ليس يمتنع أن يورث من لا يرث ؛ لأن الجنين إذا سقط ميتا بجناية كان موروثا ولم يكن وارثا ، ثم لا دليل فيه على تبعيض نفقة الزوجة ؛ لأن الميراث يتبعض ونفقة الزوجة لا تتبعض ، والله أعلم .