مسألة : قال
الشافعي رحمه الله : ولو
قطع يده من مفصل الكوع فلم يبرأ حتى قطعها آخر من المرفق ثم مات فعليهما القود ، يقطع قاطع الكف من الكوع ويد الآخر من المرفق ثم يقتلان لأن ألم القطع الأول واصل إلى الجسد كله .
[ ص: 136 ] قال
الماوردي : وهذا كما قال إذا
توالت جنايتان فأزالت الثانية منهما محل الأولى ، مثل أن يقطع أحدهما يده من مفصل الكوع ، ويقطع الثاني بقيتها من الكتف أو المرفق أو يقطع أحدهما إصبعه ويقطع الثاني بقية كفه ، أو يكون مثل ذلك في قطع القدم والساق ، ثم يموت المقطوع ودمه سائل ، فمذهب
الشافعي أنهما قاتلان وعليهما القصاص في الطرف وفي النفس .
وقال
أبو حنيفة : الأول قاطع يجب عليه القصاص في اليد دون النفس .
والثاني : يجب عليه القصاص في النفس دون اليد ، احتجاجا بأن السراية تحدث عن محل الجناية ، فإذا زال محلها زالت سرايتها لانقطاع مادتها ، ألا ترى أن سراية الأكلة تزول بقطع محلها ، فصار انقطاعها كالاندمال ، وصار الثاني كالمنفرد ، أو الموجئ ، فوجب أن يكون هو القاتل دون الأول .
ودليلنا هو أن الموت بالسراية حادث عن ألمها ، وألم القطع الأول قد سرى في الحال إلى الجسد كله قبل القطع الثاني ، فانتقل محله إلى القلب الذي هو مادة الحياة فإذا حدث القطع الثاني أحدث ألما ثانيا زاد على الألم الأول ، فصار الموت حادثا عنهما لا عن الثاني منهما ، كمن سجر تنورا بنار حمي بها ثم أخرج سجاره وسجره بأخرى تكامل حماه بهما لم يكن تكامل الحمي منسوبا إلى السجار الثاني ، وإن زالت السجار الأول ، بل كان منسوبا إليهما ، كذلك تكامل الألم في القلب لم يكن بالقطع الثاني دون الأول ، بل كان بالثاني والأول .
فإن قيل : فزيادة الألم الأول منقطعة وزيادة الألم الثاني مستديمة ، فيجب أن يكون الموت منسوبا إلى الألم الثاني لاتصال مادته دون الألم الأول لانقطاع مادته فعنه جوابان :
أحدهما : أن هذا يقتضي زيادة الألم الثاني وقلة الأول ، وليس اختلافهما في القلة والكثرة مانعا من تساويهما في القتل ، كما لو جرحاه فكانت جراحة أحدهما أكثر ألما كانا سواء في قتله .
والثاني : أن انقطاع أسباب الألم لا يمنع من مساواة ما بقيت أسبابه في إضافة القتل إليهما ، كما لو
ضربه أحدهما بخشبة وجرحه الآخر بسيف كانا شريكين في قتله ، وإن كان أثر الخشبة مرتفعا وأثر السيف باقيا ، وفي هذين الجوابين دليل في المسألة وانفصال عن الاعتراض ، وما ذكروه من قطع الأكلة لانقطاع سرايتها فالمقصود به قطع الزيادة دون الإزالة ، وأن لا يسري إلى ما جاوزه ، وأما الاندمال فلا يكون إلا بعد زوال الألم ، والقطع لا يزيل الألم وإنما يقطع زيادته فافترقا .
[ ص: 137 ] وأما التوجئة فلا بقاء للنفس معها ، فارتفع بها حكم السراية ، وناظرني في هذه المسألة القاضي
أبو بكر الأشعري ، وقد استدللت فيها بما تقدم ، فاعترض علي بأن الألم عرض لا يبقى زمانين فاستحال أن يبقى مع انقطاع مادته فأجبته عنه بأن الألم لما وصل إلى القلب صار محلا له ، فتوالت منه مواده كما يتوالى من محل القطع .