الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وسواء في النكول المحجور عليه وغير المحجور عليه ، ويلزمه منها في ماله ما يلزم غير المحجور . والجناية خلاف البيع والشراء . فإن قال قائل : كيف يحلفون على ما لا يعلمون ؟ قيل : فأنتم تقولون : لو أن ابن عشرين سنة رئي بالمشرق اشترى عبدا ابن مائة سنة رئي بالمغرب ، فباعه من ساعته ، فأصاب به المشتري عيبا ، أن البائع يحلف على البت لقد باعه إياه وما به هذا العيب ولا علم له به . والذي قلنا قد يصح علمه بما وصفنا " .

قال الماوردي : أما الحجر فضربان :

أحدهما : يكون لارتفاع القلم كالجنون والصغر ، فيمتنع من سماع الدعوى منه وعليه : لأنه لا حكم لقوله في مال ولا بدن .

والضرب الثاني : أن يكون مع ثبوت القلم عليه بالبلوغ والعقل ، وقد ثبت الحجر فيه بأحد خمسة أسباب : السفه والفلس والمرض والرق والردة .

وهذه المسألة مقصورة على الحجر بالسفه ؛ لأن ما عداه له مواضع قد مضى بعضها ويأتي باقيها ، وإذا كان كذلك لم يخل حال المحجور عليه بالسفه من أن يكون مدعيا أو مدعى عليه ، فإن كان مدعيا ، سمعت دعواه وكان فيها الرشيد ، وإن توجهت عليه يمين إما ابتداء في القسامة أو انتهاء في الرد بعد النكول حلف فيها ، وحكم له بموجبها [ ص: 30 ] كالرشيد : لأن في ذلك حفظ لماله ، والحجر يمنعه من إتلافه ، وإن كان مدعى عليه سمعت الدعوى عليه : لأنه قد ينكرها فيستحلف عليها أو تشهد بها بينة ، فيكون لها حكم . وإذا كان كذلك لم تخل الدعوى عليه من أن تكون في دم أو مال ، فإن كانت في دم ، لم تخل من أن تكون موجبة للقسامة ، أو غير موجبة لها . فإن أوجبت القسامة لوجود اللوث في قتل نفس ، فللمدعي أن يقسم على المحجور عليه ، كما يقسم على الرشيد ، ويقضى عليه بموجب أيمانه إذا حلف . فإن نكل عن الأيمان ردت على المحجور عليه ، فإن حلف برئ ، وإن نكل قضي عليه بالدعوى ، وكان فيما يجب عليه بنكوله كالرشيد . وإن كانت دعوى الدم غير موجبة للقسامة ، فهي على ضربين :

أحدهما : أن تكون في عمد يوجب القود ، فتسمع الدعوى عليه ، فإن أقر بها صح إقراره كما يصح إقرار العبد بها : لانتفاء التهمة عنه ، فإن عفي عن القود وجبت الدية في ماله ، وأخذت منه مع بقاء حجره . وإن نكل عن اليمين ردت على المدعي ، وحكم له بدعواه إذا حلف ، وخير بين القود والدية .

والضرب الثاني : أن تكون في خطأ يوجب المال دون القود ، فتسمع الدعوى عليه ، فإن أقر بها ففي صحة إقراره قولان :

أحدهما : - وهو الأصح - أنه لا يصح كالمال .

والثاني : أنه يصح : لتغليظ حرمة الدماء والنفوس ، كالعمد . فإن أبطل إقراره بها لم يلزمه ولا عاقلته ، وإن صح إقراره بها لزمته الدية في ماله دون عاقلته ، إلا أن يصدقوه عليها فيتحملونها عنه . وإن أنكر الدعوى ، أحلف عليها ، فإن حلف برئ ، وإن نكل عن اليمين ، فإن قلنا إن إقراره يصح ردت اليمين على المدعي وحكم له إذا نكل ، وهل تجب الدية على عاقلته أم لا ؟ على قولين : بناء على اختلاف قوليه في يمين المدعي بعد نكول المدعى عليه ، هل تقوم مقام البينة أو مقام الإقرار ؟ فإن قيل : إنها تقوم مقام البينة ، تحملت العاقلة الدية كما تتحملها بالبينة . وإن قيل : إنها تقوم مقام الإقرار لم تتحملها العاقلة ، كما لا تتحملها بإقراره . وإن قلنا : إن إقرار السفيه بها باطل ، ففي رد اليمين على المدعي بعد نكول السفيه عنها قولان :

أحدهما : ترد عليه إذا قيل إن يمينه كالبينة .

والثاني : لا ترد إذا قيل إن يمينه كالإقرار .

فصل :

وإن كانت الدعوى في مال محض سمعت عليه ، فإن أنكرها حلف وبرئ ، وإن نكل عنها كان في رد اليمين على المدعي ما قدمناه من القولين ، فإن أقر بها لم يلزمه إقراره قولا واحدا : لما تضمنه من استهلاك ماله الذي هو متهوم فيه ، فلا يلزمه في ظاهر الحكم . وهل يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى أم لا ؟ معتبرا بالمال ، فإن كان عن [ ص: 31 ] إتلاف ، واستهلاك ، إما لنفس أو مال ، لزمه فيما بينه وبين الله تعالى ، وإن لم يلزمه في ظاهر الحكم ما كان حجره باقيا . فإذا فك حجره غرمه ، وإن كان عن معاملة ومراضاة لم يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى .

كما يلزمه في ظاهر الحكم ، ولا يلزمه غرمه بعد فك حجره ، وهو معنى قول الشافعي : والجناية خلاف البيع والشراء .

والفرق بينهما : أن ديون المراضاة كانت باختيار صاحبها ، فصار هو المستهلك لها بإعطائه إياها ، وديون الجنايات والاستهلاك عن المراضاة ، فلم يكن من صاحبها ما يوجب سقوط غرمها ، فافترقا من هذين الوجهين فيما بينه وبين الله تعالى ، وفي الرجوع به بعد فك الحجر . فعلى هذا : إن استحق الغرم في استهلاك مال عمل ، غرمه عند فك حجره : لأن غرم الأموال المستهلكة معجل ، وإن استحق في دية خطأ يلزم تأجيلها ، ففي ابتداء الأجل وجهان :

أحدهما : من وقت الإقرار لوجوبها به .

والوجه الثاني : من وقت فك حجره : لأنه بفك الحجر صار من أهل غرمها . والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية