[ ص: 49 ] باب
كيف يمين مدعي الدم والمدعى عليه
مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " وإذا وجبت لرجل قسامة حلف بالله الذي لا إله إلا هو عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، لقد قتل فلان فلانا منفردا بقتله ، ما شاركه في قتله غيره . وإن ادعى على آخر معه حلف لقتل فلان وآخر معه فلانا منفردين بقتله ما شاركهما فيه غيرهما " .
قال
الماوردي : وهذا صحيح ، إذا كان من شرط الدعوى أن تكون مفسرة ، ينتفي عنها الاحتمال ، وجب أن يكون اليمين عليها مطابقة لها في استيفاء شروطها ، ونفي الاحتمال .
وذلك بخمسة أشياء ، هي شروط في كمال يمينه ووجوب الحكم بها ، ذكر
المزني منها أربعة وأغفل الخامس ، وقد ذكره
الشافعي في كتاب الأم .
أحدها : صفة اليمين .
والثاني : تعيين القاتل .
والثالث : تعيين المقتول .
والرابع : ذكر الانفراد بقتل ، أو الاشتراك فيه .
والخامس : - وهو الذي أغفله
المزني - صفة القتل من عمد وخطأ .
فأما اليمين فلا تصح إلا بأحد ثلاثة أشياء : إما بالله تعالى ، أو باسم من أسمائه ، وإما بصفة من صفات ذاته . ولا تصح بصفات أفعاله : لأنها مخلوقة ، وصفات ذاته قديمة ، واليمين بالمخلوقات لا تصح ، وإن كانت معظمة . فيمينه بالله تعالى أن يقول : والله ، أو بالله ، أو تالله ، فيضم إليه حرف القسم به ، وهو أحد ثلاثة حروف : الواو ، والباء ، والتاء . ودخول حرف القسم عليه يقتضي أن يكون إعرابه مجرورا ، فيقول : والله ( بالكسر ) ، فإن جعله مرفوعا فقال : والله ( بالضم ) ، أو جعله منصوبا فقال : والله ( بالفتح ) . قال
الشافعي في كتاب الأم : أجزأه : لأنه لحن لا يزيل المعنى ولم يفرق ، وفرق
[ ص: 50 ] بعض أصحابه بين من كان من أهل العربية والإعراب في كلامه ، وبين من لم يكن منهم ، فجعلها ممن ليس من أهل العربية يمينا : لأنهم لا يفرقون بين اللحن والإعراب ، ويتكلمون بهما على السواء .
ولم يجعلها فيمن كان من أهل العربية يمينا : لأنهم يفرقون بين اللحن والإعراب ، ولا يتلفظون بالكلمة إلا على موضعها في اللغة ، فلا يجعلون ما خرج عن إعراب القسم قسما .
فأما إن حذف حرف القسم من ذكر الله لم يكن - على الظاهر من مذهب
الشافعي - يمينا في عموم الناس كلهم ؛ سواء ذكر الاسم مرفوعا أو مجرورا أو منصوبا ، وعلى قول من فرق بين أهل العربية وغيرهم من أصحابه ، فجعلها بالنصب في أهل العربية يمينا : لأنهم إذا حذفوا حرف الجر نصبوا ، فصار النصب عوضا عن حرف القسم ، فصارت فيهم يمينا دون غيرهم . فأما غير ذلك من أسماء الله تعالى فينقسم قسمين :
أحدهما : ما كان على اختصاصه بأسماء الله التي لا يشاركه المخلوقون فيها كالرحمن ، فيمينه به كيمينه بالله .
والقسم الثاني : ما كان مشتركا بين الله تعالى وعباده كالرحيم ، فلا يصح يمينه بانفراده حتى يضاف إلى صفة لا يشاركه المخلوقون فيها .
وأما يمينه بصفات ذاته ، فكقوله : وقدرة الله ، وعظمة الله ، وعزة الله ، فيكون يمينا : لأنها قديمة مع قدمه . فأما صفات أفعاله ، فكقوله : وخلق الله ، ورزق الله ، فلا يكون يمينا لحدوثها ، فصار كيمينه بالمخلوقات التي لا يلزم القسم بها . فإذا صح ما يقسم به من ذكر الله وأسمائه المختصة به وصفات ذاته دون صفات أفعاله ، فالأولى بالحاكم أن يضم إلى اسمه في اليمين من صفاته ما يكون أغلظ لليمين وأرهب للحالف .
وقد ذكره
الشافعي رحمه الله تعالى ، فقال : يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ، وهو أولى من قول لا إله غيره : لأن في الأول إثبات لإلهيته ونفي لإلهية غيره .
والثاني : مقصور على نفي إلهية غيره ، ثم أكد بعد ذلك بقوله : الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وهذه صفة تختص بالله تعالى دون غيره ، فإن ذكر الحالف ذلك في اليمين التي أحلف بها ، كان تأكيدا لها ، وإن اقتصر في اليمين على اسمه فأحلفه : والله ، ولم يذكر من صفات التأكيد شيئا ، أجزأت اليمين : لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر في إحلاف ركانة بن عبد يزيد على اسم الله ، ولم يغلظها بالصفات . والله أعلم .