مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه : " وإذا أمر السلطان بقتل رجل أو قطعه ، اقتص من السلطان : لأنه هكذا يفعل ، ويعزر المأمور " .
قال
الماوردي : وقد مضت هذه المسألة في أول كتاب الجنايات ، وهو أن
يأمر السلطان رجلا بقتل رجل ظلما ، فقتله المأمور ، لم يخل حاله من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يعتقد أن السلطان محق في قتله ، وأنه لا يرى قتل أحد ظلما ، فعلى السلطان الآمر القود دون المأمور القاتل : لأن المأمور كالآلة لالتزامه طاعة سلطانه ، والسلطان هو القاتل لنفوذ أمره ، ولا تعزير على المأمور : لأنه أطاع فيما ظاهره حق .
والقسم الثاني : أن يكون القتل مختلفا في استحقاقه ، كقتل المسلم بالكافر ،
[ ص: 88 ] والحر بالعبد ، فيعتقد السلطان الآمر وجوبه ، لما أداه اجتهاده إليه ، ويعتقد المأمور سقوطه كما يعتقده من مذهبه ، فلا قصاص على واحد منهما ، لكن يعزر المأمور : لإقدامه على قتل يعتقد حظره ، وإن سقط القود باجتهاده كالآمر .
والقسم الثالث : أن يكون القتل محظورا ودم المقتول محقونا ، والمأمور عالما بظلمه إن قتل ، فهذا على ضربين :
أحدهما : أن لا يكون من الآمر إكراه للمأمور ، فالقود واجب على المأمور دون الآمر : لمباشرته لقتل مظلوم باختياره ، ويعزر الآمر تعزيرا مثله : لأمره بقتل هو مأمور بمنعه .
والضرب الثاني : أن يكون من الآمر إكراه للمأمور صار به الآمر قاهرا والمأمور مقهورا ، فالقود على الآمر القاهر واجب ، ولا تمنع ولايته من استحقاق القود عليه ، بخلاف ما ذهب إليه بعض من يدعي العلم من إعفاء الولاة من القصاص : لأن لا ينتشر بالاقتصاص منهم فساد ، وهذا خطأ : لأن الحدود والحقوق يستوي فيها الشريف والمشروف ، والوالي والمعزول ، وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم القصاص من نفسه ، وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده ، ولأن أولى الناس بإعطاء الحق من نفسه من يتولى أخذ الحقوق لغيره : لقول الله تعالى :
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم [ البقرة : 44 ] ، ويكون القهر من هذا الآمر فسقا ، وهل ينعزل به عن إمامته أم لا ؟ على وجهين :
أحدهما : ينعزل : لأن العدالة شرط في عقد إمامته .
والوجه الثاني : لا ينعزل به حتى يعزله أهل العقد والحل ، إن أقام على حاله ولم يتب عند استتابته : لأن ولايته انعقدت بهم فلم ينعزل عنها إلا بهم . فأما المأمور المقهور ففي وجوب القود عليه قولان :
أحدهما : يجب عليه القود : لأنه لا يستحق إحياء نفسه بقتل غيره .
والقول الثاني : لا قود عليه . واختلف أصحابنا في علته ، فذهب البغداديون إلى أن العلة في سقوط القود عنه : أن
الإكراه شبهة يدرأ بها الحدود ، فعلى هذا : يسقط القود عنه وتجب الدية عليه ويلزمه نصفها : لأنه أحد قاتلين : لأن الشبهة تدرأ بها الحدود ولا تدفع بها الحقوق . وذهب البصريون إلى أن العلة في سقوط القود عنه أن الإكراه إلجاء وضرورة ، ينقل حكم الفعل عن المباشرة إلى الأمر ، فعلى هذا : لا قود عليه ولا دية . والله أعلم بالصواب .