[ ص: 89 ] باب الحكم في الساحر إذا قتل بسحره
أصل ما جاء في السحر قول الله تعالى :
واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت الآية [ البقرة : 102 ] . ونحن نذكر ما قاله المفسرون فيها ، وما احتمله تأويل معانيها : ليكون حكم السحر محمولا عليها .
أما
قوله تعالى : واتبعوا ما تتلو الشياطين فيه وجهان :
أحدهما : ما تدعي .
والثاني : ما تقرأ وفيما تتلوه ، وجهان :
أحدهما : السحر .
والثاني : الكذب على
سليمان . وفي الشياطين ها هنا وجهان :
أحدهما : أنهم شياطين الجن ، وهو المطلق من هذا الاسم .
والثاني : أنهم شياطين الإنس المتمردون في الضلال ، ومنه قول
جرير :
أيام يدعونني الشيطان من غزلي وهن يهوينني إذ كنت شيطانا
وفي
قوله تعالى : على ملك سليمان وجهان :
أحدهما : يعني في ملك
سليمان لما كان ملكا حيا ، وتكون " على " بمعنى " في " .
والثاني : على كرسي
سليمان ، بعد وفاته : لأنه كان من آلات ملكه ، ويكون " على " مستعملا على حقيقته . وفي قوله :
وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا وجهان :
أحدهما : يعني وما سحر
سليمان ، ولكن الشياطين سحروا ، فعبر عن السحر بالكفر : لأنه يئول إليه .
[ ص: 90 ] والثاني : أنه مستعمل على حقيقة الكفر : لأن
سليمان لم يكفر ، ولكن الشياطين كفروا .
فإن قيل : إن المراد به السحر ، ففيه وجهان :
أحدهما : أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ويستخرجون السحر ، فأطلع الله
سليمان عليه ، فأخذه منهم ودفنه تحت كرسيه ، فلما مات
سليمان دلوا عليه الإنس ونسبوه إلى
سليمان ، وقالوا : بسحره هذا سخرت له الرياح والشياطين .
والثاني : أن الشياطين بعد موته دفنوا سحرهم تحت كرسي
سليمان ، ثم نسبوه إليه .
وإن قيل : إنه محمول على حقيقة الكفر ، ففيما أريد بقوله
وما كفر سليمان وجهان :
أحدهما : ما كفر بالسحر .
والثاني : ما كفر بما حكاه عن الله تعالى من تسخير الرياح والشياطين له ، وفي المراد بقوله تعالى
ولكن الشياطين كفروا وجهان :
أحدهما : كفروا بما استخرجوه من السحر .
والثاني : كفروا بما نسبوه إلى
سليمان من السحر ، ثم قال :
يعلمون الناس السحر وفيه وجهان :
أحدهما : معناه أعلموهم ولم يعلموهم ، فيكون من الإعلام لا من التعليم ، وقد جاء في كلامهم تعلم بمعنى أعلم ، كما قال الشاعر :
تعلم أن بعد الغي رشدا وأن لذلك الغي انقشاعا
والثاني : أنه التعليم المستعمل على حقيقته ، وفي تعليمهم للناس السحر وجهان :
أحدهما : أنهم ألقوه في قلوبهم فتعلموه .
والثاني : أنهم دلوهم على إخراجه من تحت الكرسي فتعلموه ، وفي قوله :
وما أنزل على الملكين وجهان :
[ ص: 91 ] أحدهما : أنهما ملكان من ملائكة السماء . قاله من قرأ بالفتح .
والثاني : أنهما ملكان من ملوك الأرض . قاله من قرأ بالكسر ، وفي " ما " ها هنا وجهان :
أحدهما : أنها بمعنى الذي ، وتقديره : الذي أنزل على الملكين .
والثاني : أنها بمعنى النفي ، وتقديره : ولم ينزل على الملكين ، " ببابل " وفيه وجهان :
أحدهما : أنها أرض الكوفة وسوادها ، سميت بذلك حين تبلبلت الألسن بها .
والثاني : أنها من نصيبين إلى رأس العين ، و "
هاروت وماروت " فيهما وجهان :
أحدهما : أنهما اسمان للملكين .
والثاني : أنهما اسمان لشخصين غير الملكين ، وفيهما وجهان :
أحدهما : أنهما من الملائكة اسم أحدهما
هاروت والآخر
ماروت . قاله من زعم أن الملكين المذكورين من قبلهما من ملوك الأرض .
والثاني : أنهما من ناس الأرض ، اسم أحدهما
هاروت والآخر
ماروت من أهل الحيل . قاله من زعم أن الملكين المذكورين هما من ملائكة السماء . فإن قيل : إنهما من الملائكة . ففي سبب هبوطهما وجهان :
أحدهما : اختبار الملائكة : لأنهم عجبوا من عصاة الأرض فأهبط منهم
هاروت وماروت في صورة الإنس فأقدما على المعاصي وتعليم النصيحة . وهذا يستبعد في الملائكة المعصومين من المعاصي ، لكن قاله كثير من المفسرين فذكرته .
والثاني : أن الله تعالى أهبطهما لينهيا الناس عن السحر . وإن قيل : إنهما من ناس الأرض ، ففيهما وجهان : أنهما كانا مؤمنين . وقيل : كان نبيين من أنبياء الله تعالى ، ولذلك نهيا عن الكفر .
والثاني : أنهما كانا كافرين ولذلك علما السحر ، ثم قال :
وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فيه وجهان :
أحدهما : أنه على وجه النفي .
وتقديره : لا يعلمان أحدا السحر فيقولان : إنما نحن فتنة . فعلى هذا : يكون ذلك راجعا إلى من انتفت عنه المعصية من الملكين أو من
هاروت وماروت . والثاني : أنه إثبات لتعليم السحر على شرط أن يقولا : إنما نحن فتنة فلا تكفر . فعلى هذا : فيه وجهان :
[ ص: 92 ] أحدهما : أنه راجع إلى من أضيفت إليه المعصية من الملكين ومن
هاروت وماروت ، ويكون تأويل قوله على هذا الوجه :
إنما نحن فتنة أي شيء عجيب مستظرف الحسن ، كما يقال للمرأة الحسناء فتنة . وهذا تأويل قوله :
فلا تكفر أي فلا تكفر بما جئناك به وتطرحه ، بل صدق به واعمل عليه .
والوجه الثاني : أنه راجع إلى من انتفت منه المعصية من الملكين أو من
هاروت وماروت . فعلى هذا :
هل لملائكة الله وأوليائه تعليم الناس السحر أم لا ؟ فيه وجهان :
أحدهما : لهم تعليم الناس السحر : لينهوا عنه بعد علمهم به : لأنهم إذا جهلوه لم يقدروا على الاجتناب منه ، كالذي لا يعرف الكفر لا يمكنه الامتناع منه .
والثاني : ليس لهم تعليم السحر ولا إظهاره للناس : لما في تعليمه من الإغراء بفعله ، وقد كان السحر فاشيا تعلموه من الشياطين ، فاختص الملكان بالنهي عنه ، ويكون تأويل قوله على كلا الوجهين
إنما نحن فتنة أي اختبار وابتلاء . وفي قوله :
فلا تكفر وجهان :
أحدهما : فلا تكفر بالسحر .
والثاني : فلا تكفر بتكذيبك لنهي الله عن السحر ، ثم قال :
فيتعلمون منهما فيه وجهان :
أحدهما : من
هاروت وماروت .
والثاني : من السحرة والكفرة
ما يفرقون به بين المرء وزوجه فيه وجهان :
أحدهما : يفرقون بينهما بالسحر الذي تعلمون .
والثاني : يفرقون بينهما بالكفر : لأن اختلاف الدين بالإيمان والكفر مفرق بين الزوجين كالردة . ثم قال تعالى :
وما هم بضارين به يعني بالسحر
من أحد إلا بإذن الله فيه وجهان :
أحدهما : بأمر الله .
والثاني : بعلم الله . ثم قال :
ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم [ البقرة : 102 ] ، يعني يضرهم في الآخرة ولا ينفعهم في الدنيا . ثم قال :
ولقد علموا لمن اشتراه يعني السحر بما يبذله للساحر ،
ما له في الآخرة من خلاق فيه وجهان :
أحدهما : من نصيب .
والثاني : من دين .