فصل :
فأما مانعو الزكاة من بعد فضربان :
أحدهما : من منعها مستحلا لمنعها ، فيكون باستحلال المنع مرتدا ، وإن لم يكن المانع منها في عهد
أبي بكر مرتدا .
والفرق بينهما : أن المنع الأول كان قبل الإجماع على إبطال ما اشتبه عليهم من حكم الآية ، فكان لتأويل الشبهة مساغا ، والمنع الحادث بعده قد انعقد الإجماع على إبطال الشبهة فيه ، فلم يكن للتأويل مساغ ، فافترقا في حكم الردة : لافتراقهما في حال الإجماع .
ومثاله : شارب الخمر في عصر الصحابة لما استحل شربها بشبهة تعلق بها في قوله تعالى :
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا [ المائدة : 93 ] ، لم يكفر لاحتمال شبهته ، فلما أجمع الصحابة على بطلان هذا التأويل صار مستحلها كافرا .
والضرب الثاني : أن يمنعوا منها غير مستحلين لمنعها ، فيجوز قتالهم على أخذها منهم .
وقال
أبو حنيفة : لا يجوز قتالهم على منعها مع إقرارهم بوجوبها : لأمرين :
أحدهما : لتعلقها بأموالهم دون أبدانهم ، فكان المال هو المطلوب دونهم .
والثاني : أن الله تعالى قد ائتمنهم على أدائها فكانت كالأموال الباطنة .
ودليلنا : قول
أبي بكر للصحابة رضي الله عنهم في مانعي الزكاة : والله لو منعوني عناقا أو عقالا مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه .
فوافقوه عليه بعد مخالفتهم له ، فدل على انعقاد الإجماع به .
ولأنهم لما قوتلوا لامتناعهم من حق الإمام في الطاعة ، كان قتالهم في امتناعهم من حق الله تعالى في الزكاة أولى ، ولأن العبادات نوعان : على أبدان ، وفي أموال ،
[ ص: 112 ] فلما قوتلوا في عبادات الأبدان قوتلوا في عبادات الأموال .
وقولهم : إن المال هو المطلوب فصحيح ؛ لكن لما لم يوصل إليه إلا بقتالهم ، صار قتالهم موصلا إلى أخذ الحق منهم ، وما أوصل إلى الحق كان حقا .
وأما الأموال الباطنة ففيها جوابان :
أحدهما : أنه لا نظر للإمام فيها ، فلم يحاربهم عليها ، وخالفت الأموال الظاهرة .
والثاني : أنه لا يمتنع أن يقاتلوا على إخراجها إلى مستحقيها ، وإن لم يقاتلوا على دفعها إلى الإمام .